كشفت تقارير رسمية صادرة عن وحدة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في مصر، أن عام 2024 شهد إحالة 237 قضية غسل أموال إلى النيابة العامة، بإجمالي مبالغ مشبوهة تقدر بنحو 500 مليون دولار أمريكي، أي ما يعادل قرابة 24 مليار جنيه مصري.
وتعد هذه القفزة مؤشراً خطيراً على تصاعد أنشطة اقتصاد الظل، حيث يتم تدوير الأموال بعيداً عن أعين الدولة، مما يخلق سوقاً موازية ويقلص قدرة الحكومة على الرقابة المالية والتحصيل الضريبي.

 

مصر والاتفاقيات الدولية: التزامات تتآكل

رغم توقيع مصر على العديد من الاتفاقيات الدولية لمكافحة غسل الأموال، من أبرزها انضمامها إلى مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENAFATF)، إضافة إلى التزامها بإجراءات مجموعة "فاتف" (FATF)، فإن الواقع يشير إلى تآكل فاعلية هذه الالتزامات على الأرض.

ويؤكد الخبير الاقتصادي هاني توفيق أن "الآليات المحلية لمكافحة غسل الأموال ما زالت ضعيفة، بسبب غياب الرقابة الكافية على التعاملات النقدية خارج القطاع المصرفي، وانتشار التجارة غير الرسمية"، مضيفاً أن "هذا يفتح الباب أمام تمويل أنشطة غير مشروعة أو تحويل الاقتصاد إلى رهينة للكتلة النقدية غير المسجلة".

 

مظاهر اقتصاد الظل.. تجارة وسوق عقارات ومخدرات

بحسب تصريحات رئيس وحدة مكافحة غسل الأموال المصرية المستشار خالد النشار، فإن غالبية القضايا المحالة خلال 2024 كانت مرتبطة بقطاعات مثل تجارة المخدرات، وتجارة العملة خارج الجهاز المصرفي، وتجارة الأراضي والعقارات المشبوهة.
وأوضح أن بعض القضايا شملت استخدام شركات وهمية وأسماء أشخاص ليس لهم نشاط فعلي، ما يشير إلى شبكات منظمة تندمج داخل الاقتصاد الرسمي وتستخدمه كغطاء قانوني.

وفي دراسة صادرة عن المركز المصري للدراسات الاقتصادية عام 2023، قُدرت نسبة اقتصاد الظل في مصر بما يعادل 45% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة هائلة تكشف عن حجم الأموال التي لا تخضع للضرائب أو الرقابة.

تشكل الأموال الناتجة عن جرائم، مثل تجارة العملة والمخدرات والتزوير والتهرب الضريبي، المصدر الأكبر لغسيل الأموال في مصر، الإحصاءات الحكومية تشير إلى ضبط قضايا غسيل أموال تفوق 19 مليار جنيه عام 2024، منها ما لا يقل عن 70% مرتبطة بالعملات والمخدرات، والبقية بالنصب والهجرة غير الشرعية.

وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن الاقتصاد غير الرسمي أو "اقتصاد الظل" يمثل ما يصل إلى 50% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، ما يجعل مصر واحدة من البيئات المثالية لتبييض الأموال القذرة

 

تهديد مباشر للاستثمار والقطاع المصرفي

أشار رئيس مجلس إدارة أحد البنوك الحكومية الكبرى في تصريحات لجريدة المال في مايو 2025، إلى أن "الانتشار المتزايد لغسل الأموال يهدد سلامة النظام المالي، ويؤثر سلباً على تصنيف مصر الائتماني، ويجعل المؤسسات الدولية تتردد في تقديم تمويلات مباشرة".

ويضيف الخبير المصرفي سامي عبد اللطيف أن "عدم السيطرة على هذه الأنشطة يضع القطاع المصرفي المصري في مرمى العقوبات الدولية، خصوصاً من قبل الخزانة الأمريكية التي تراقب تمويل الإرهاب وغسل الأموال بدقة عالية".

 

من المسؤول؟

في حين تتفاخر حكومة الانقلاب المصرية بسن قوانين صارمة وتحديث آليات الرقابة، إلا أن تطبيقها ما يزال محدوداً، ففي عام 2024 وحده، لم تسفر سوى عدد محدود جداً من القضايا عن أحكام نهائية، بينما تمت تسوية بعض القضايا ماليًا أو تمت تبرئة المتهمين بسبب "عدم كفاية الأدلة".

ويرى المحلل السياسي خالد عبد الغفار أن المشكلة تكمن في "تواطؤ بعض العناصر الإدارية، وغياب التنسيق بين الأجهزة الرقابية، بالإضافة إلى ضعف الشفافية في عمل بعض البنوك التي ما زالت تسمح بفتح حسابات دون تحقيق شامل في مصادر الدخل".

 

آثار اقتصادية واجتماعية خطيرة

يمتد أثر غسيل الأموال إلى ما هو أبعد من الجانب المالي، حيث يساهم في تشويه المنافسة السوقية، إذ تجد الشركات الصغيرة والمتوسطة نفسها غير قادرة على مجاراة أنشطة مموّلة بأموال غير مشروعة.

وفي هذا السياق، حذّر اتحاد الصناعات المصرية في بيان صادر في مارس 2025 من أن "الاقتصاد الرسمي يتعرض لخطر التفكك أمام زحف الاقتصاد غير الرسمي وغسيل الأموال، مما يؤدي إلى تهرب ضريبي واسع، وزيادة العجز في الموازنة العامة".

ويؤدي كل ذلك إلى تآكل ثقة المستثمرين المحليين والأجانب في البيئة الاقتصادية المصرية، مع تفشي المحسوبية وتداخل المصالح غير القانونية في بيئة الأعمال.

 

هل من حلول؟ ما الذي يجب فعله الآن؟

يرى عدد من الاقتصاديين أن معالجة هذا الملف تتطلب:

  1. تعزيز استقلالية وحدة مكافحة غسل الأموال، وضمان عدم تدخل الأجهزة الأمنية أو التنفيذية في عملها.
  2. التحول إلى الاقتصاد غير النقدي، عبر تفعيل الشمول المالي واستخدام وسائل الدفع الإلكتروني.
  3. مراقبة سوق العقارات والعملات، باعتبارها أكثر المجالات استخداماً في غسيل الأموال.
  4. زيادة التعاون مع الأجهزة الرقابية الدولية، وتبادل المعلومات لحصر حركة الأموال المشبوهة.