تتصاعد المأساة الإنسانية في مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، حيث تحولت إلى بؤرة لانهيار شامل يعكس عمق الكارثة السودانية. فقد أعلن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) عن وفاة عشرات الأطفال دون الخامسة، إضافة إلى أعداد كبيرة من كبار السن، نتيجة الجوع والأمراض خلال الأسابيع الماضية. المدينة التي ترزح تحت حصار خانق باتت تعيش على وقع مشاهد موت بطيء، جعلت السكان عالقين بين خيارين أحلاهما مر: البقاء تحت المجاعة والعنف أو المجازفة بالهروب عبر طرق مليئة بالقتل والنهب والانتهاكات.
إغلاق المطابخ المجتمعية.. موت معلن
تقارير أوتشا أوضحت أن نقص التمويل وارتفاع تكاليف التشغيل أديا إلى إغلاق المطابخ المجتمعية، التي كانت تشكل شريان الحياة لآلاف الأسر النازحة والمواطنين. ومع توقف هذه المطابخ، تلاشت آخر مظاهر الأمان الغذائي، وترك الأطفال والنساء وكبار السن لمصير مجهول وسط مجاعة تتفاقم يوماً بعد آخر. صور الجثث والمرضى التي تتكرر داخل الفاشر أصبحت عنواناً لأزمة عالم يتفرج بصمت.
جرائم ممنهجة وانتهاكات مروعة
دنيس براون، منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في السودان، عبرت عن قلق بالغ إزاء الانتهاكات الموثقة ضد المدنيين، مشيرة إلى أن التقارير تتحدث عن قتل خارج القانون، وخطف، واحتجاز تعسفي، إضافة إلى هجمات على الأسواق والمستشفيات ودور العبادة. براون شددت على أن المدنيين يواجهون “خيارات مستحيلة” في ظل هذا الوضع، داعية إلى فتح ممرات آمنة تتيح خروج المدنيين وإدخال المساعدات. كما أكدت على ضرورة إصدار أوامر واضحة تمنع العنف الجنسي والهجمات ذات الطابع القبلي، التي تستهدف تفكيك النسيج الاجتماعي لدارفور.
الإمارات.. شريك في صناعة المأساة
غير أن المشهد السوداني لا يمكن عزله عن التدخلات الإقليمية، حيث تشير أصابع الاتهام مجدداً إلى دور إماراتي مباشر في تغذية الحرب. تقارير دولية وإقليمية أكدت أن أبوظبي مدت قوات الدعم السريع، بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”، بالأسلحة والتمويل، إما بشكل مباشر أو عبر شبكات تهريب عابرة للحدود من ليبيا وتشاد.
الإمارات التي تروّج لنفسها كـ”راعٍ للاستقرار” متهمة عملياً بإطالة أمد النزاع، إذ إن مساعداتها الإنسانية المعلنة لا تمحو أثر دعمها العسكري الذي يفاقم معاناة المدنيين. هذه الازدواجية جعلت أبوظبي شريكاً في إطالة أمد الحرب ومنع أي حل سياسي حقيقي.
الفاشر.. مرآة لانهيار السودان
ما يجري في الفاشر ليس حدثاً معزولاً، بل انعكاس لصورة أكبر يعيشها السودان بأسره: غياب سلطة مركزية، انهيار كامل في الخدمات، تفشي السلاح والنزاعات القبلية، وتدخلات إقليمية ودولية تستثمر في الدم السوداني. ومع كل ذلك، يقف المدنيون وحدهم في مواجهة الموت البطيء، فيما تتحول مدن مثل الفاشر إلى شاهد حي على ما يمكن أن تصل إليه الحروب بالوكالة من تدمير للبشر والحجر.
أفق مسدود.. ومجاعة وشيكة
الأمم المتحدة حذرت من أن استمرار الوضع سيقود إلى “مجاعة كارثية” تضاهي أسوأ الأزمات التي شهدتها القارة الإفريقية في العقود الماضية. لكنها في الوقت ذاته أقرت بأن غياب الإرادة الدولية الحقيقية، وتورط قوى إقليمية مثل الإمارات في تغذية الصراع، يجعل فرص الإنقاذ ضئيلة للغاية.
اليوم يقف السودان أمام معادلة مأساوية: بلد غني بالذهب والموارد الطبيعية، لكنه عاجز عن إطعام أبنائه. حصار الفاشر يعكس انهياراً أكبر يتجاوز حدود دارفور ليشمل كامل السودان، فيما تتنافس قوى إقليمية كأبوظبي والرياض والقاهرة على التحكم بمصير بلد يذوي بين أيديها.
إنها ليست أزمة غذاء فحسب، بل جريمة حرب بالوكالة تُدار على حساب دماء الأبرياء، لتضع المجتمع الدولي أمام مسؤوليته التاريخية: إما التحرك العاجل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أو ترك السودان يغرق أكثر في فوضى المجاعة والاقتتال.