شهدت مصر منذ عام 2014 موجة تصاعدية خطيرة للدين الخارجي، ترافقت مع قرارات وسياسات اقتصادية قائمة على الاقتراض المكثف وبيع الأصول العامة، دون أن تنعكس هذه العائدات بشكل ملموس على حياة المواطن أو مؤشرات التنمية المستدامة.
من 46 مليارًا إلى أكثر من 160 مليار دولار: رحلة الدين المتصاعدة
انطلقت رحلة الديون في 2014 حين بلغ حجم الدين الخارجي 46.1 مليار دولار، ثم نما إلى 48 مليار دولار في 2015. ومع تعويم الجنيه وتوقيع اتفاق مع صندوق النقد في 2016 ارتفع الدين فجأة إلى 60 مليار دولار، تلاه قفزة جديدة في 2017 ليصل إلى 82.9 مليار دولار.
واصل النزيف في 2018 ليبلغ 92.6 مليار دولار، ثم حل عام 2019 بطبعة جديدة من العجز ليستقر الدين على 112.7 مليار دولار. لم يكن عام 2020 أفضل حالًا، فبفعل تداعيات كورونا ومع استمرار الاقتراض وصل الدين إلى 123.5 مليار دولار.
أما في 2021 فقد وصل إلى 137.9 مليار دولار، قبل أن يقفز إلى 154.9 مليار دولار بنهاية 2022. وفي 2023 سجل 164.7 مليار دولار، ليتراجع قليلًا في بداية 2024 إلى 155.1 مليار دولار بفعل هيكلة بعض القروض، لكنه ما لبث أن قفز مجددًا إلى 161.2 مليار دولار بحلول منتصف 2025.
بيع الأصول: الخصخصة مقابل سداد الفوائد
خلال هذه السنوات، تسارعت وتيرة بيع الأصول والعقارات التابعة للدولة، عبر سلسلة صفقات غير مسبوقة شملت شركات حكومية استراتيجية في قطاعي الطاقة والأسمدة، حصص في بنوك كبرى، وأراضٍ وفنادق تاريخية وشركات تابعة للجيش.
ففي عام 2022، بيع جزء كبير من شركات الطاقة والبنية التحتية لصناديق استثمار خليجية (1.3 مليار دولار للسعودية، 1.85 مليار دولار للإمارات)، ثم تلاها صفقات بيع أسهم الشركة الشرقية للدخان، وطرح أجزاء من المصرية للاتصالات.
وجرى بيع سبعة فنادق تراثية نهاية 2023، كما فُتح الباب لمشروعات ضخمة مثل رأس الحكمة بقيمة استثمارية تتجاوز 35 مليار دولار، إلى جانب خطط لبيع حصص استراتيجية في شركات المياه والبترول والبنوك حتى منتصف 2025.
عوائد لم تدخل الإنتاج
ورغم الدعاية عن ضخامة العوائد وسيولة العملات الأجنبية، فإن معظم هذه الإيرادات لم تذهب لتنمية الصناعة أو خلق فرص العمل، بل تم توجيه الجزء الأكبر لسداد أقساط الديون وفوائدها المستحقة.
تشير تقديرات صندوق النقد إلى أن عوائد بيع الأصول الحكومية بلغت 3.6 مليار دولار في العام المالي 2024-2025، ومتوقع أن تصل إلى 3 مليارات دولار في 2025-2026، لكنها عوائد تستخدم في تدبير النقد اللازم لخدمة الدين بدلًا من الإنفاق على الإنتاج والاستثمار طويل الأمد.
ضغوط صندوق النقد وفجوة التمويل
انتهجت الحكومة المصرية، بإملاءات دولية، هذه السياسات تحت ضغط أزمة مالية متصاعدة وفجوة تمويلية تقدر بمليارات الدولارات سنويًا.
فوائد الدين وحدها استهلكت أكثر من نصف مصروفات موازنة 2025/2026، وأصبح سداد الفوائد عبئًا ثقيلًا على الاقتصاد الوطني، ما دفع الدولة لخصخصة أصول جديدة ومشروعات إستراتيجية، دون وجود خطة فعالة لوقف تصاعد الديون أو معالجة الجذور الهيكلية للعجز.
ديون بلا نهاية ومصير الأجيال القادمة
أما الأجيال القادمة، فهي أمام ميراث مُثقل بالديون وفوائدها المتزايدة، مع تقلص حاد في أصول الدولة غير المتجددة، ما يعمق من أزمة السيادة الوطنية والاستقلال المالي، ويجعل الفائدة القصوى تُحصد فقط على الورق.
بيع الأصل لسداد الفائدة
وختامًا، يتعمق مأزق مصر الاقتصادي مع كل قفزة في الدين الخارجي وكل صفقة بيع أصل من الأصول العامة، فتظل الدولة عاجزة عن تحقيق تنمية حقيقية قابلة للاستمرار، وتبقى معادلة: "بيع الأصل لسداد الفائدة" أبعد ما تكون عن الاستقرار أو العدالة للأجيال القادمة.