يُحيي قانون الإيجار الجديد لعام 2025 الذاكرة المؤلمة لقانون رقم 96 لسنة 1992، والذي أُطلق عليه حينها "قانون طرد الفلاحين".

ما جرى للفلاحين قبل أكثر من 30 عاماً يتكرر اليوم مع سكان المدن، ولكن بثوب حضري جديد، يخفي في طياته تداعيات اجتماعية عميقة، في مشهد يعيد إلى الأذهان واحدة من أكثر اللحظات إثارة للجدل في تاريخ التشريع.

 

قانون الإصلاح الزراعي.. من الثورة إلى النكسة
كانت البداية عام 1952، حين أصدرت ثورة يوليو "قانون الإصلاح الزراعي"، الذي عُدّ إنجازًا اجتماعيًا هائلًا لصالح الفلاحين والأجراء، بإعادة توزيع الأراضي الزراعية على من يزرعها، بعد قرون من احتكار الإقطاعيين لها.

استمر القانون 40 عامًا قبل أن يأتي عام 1992، حيث أقر البرلمان قانونًا أنهى هذه الحماية، وحرّر العلاقة بين المالك والمستأجر الزراعي، ما فتح الباب لطرد مئات الآلاف من الفلاحين، ودفع كثيرين إلى هاوية الفقر أو الهجرة للمدن.

 

الإيجار القديم... من حماية الفقراء إلى تحرير السوق
على غرار التجربة الريفية، تعيش مصر اليوم مشهداً موازياً داخل المدن.

فمنذ بداية القرن العشرين، شكّلت قوانين تثبيت الإيجارات حماية للأسر متوسطة ومحدودة الدخل، لا سيما في ظل الندرة السكنية التي خلفتها الحربان العالميتان، ما دفع الدولة للتدخل لضبط العلاقة بين المالك والمستأجر.

وقد توالت القوانين في حماية المستأجر، وكان أبرزها القانون رقم 49 لسنة 1977، والقانون 136 لسنة 1981، اللذان رسّخا مبدأ الامتداد التلقائي لعقود الإيجار، وجمّدا الأجرة، وأمّنا بقاء الأُسر لعقود داخل مساكنها.

لكن عام 2002، شهد أول خرق في هذا الجدار القانوني، حيث أبطلت المحكمة الدستورية امتداد العقد للأحفاد، وقصرته على الجيل الأول فقط.

واستمر الوضع على ما هو عليه، حتى جاء حكم المحكمة الدستورية العليا في نوفمبر 2024، ليهزّ القاعدة التشريعية من جديد.

 

حكم المحكمة… هل فُهم كما أرادت؟
قضت المحكمة الدستورية بأن تثبيت الأجرة بات غير دستوري، ما يفتح الباب أمام تحرير الإيجارات. لكن الحكم لم يتطرّق إلى مسألة طرد المستأجرين أو إنهاء عقودهم، ما يعني أن المستأجر كان سيبقى في مسكنه، ولكن بإيجار عادل متفق عليه.

غير أن الحكومة استغلت الحكم كمظلة سياسية لتقديم مشروع قانون جديد، يتجاوز حدود ما قضت به المحكمة، ويذهب أبعد من تحرير الإيجار، ليُتيح للمالك استرداد وحدته بعد فترة انتقالية، حتى لو كان المستأجر غير قادر على الانتقال أو الحصول على سكن بديل.

 

تشريع الطرد في المدن.. نسخة حضرية من مأساة الفلاحين
في 2 يوليو 2025، مرّر البرلمان مشروع قانون الإيجارات الجديد، وسط انسحاب 24 نائباً احتجوا على تضمن القانون لبند "إخلاء المستأجر" بعد 7 سنوات، مطالبين بقصر التعديل على تحرير الأجرة فقط دون الطرد.

القانون الجديد يمنح المستأجر مهلة انتقالية مدتها 7 سنوات تنتهي في يوليو 2032، على أن يدفع خلالها إيجارًا تصاعديًا يبدأ من 1000 جنيه شهريًا في المناطق الراقية، و400 جنيه في المناطق المتوسطة، و250 في المناطق الشعبية، مع زيادة سنوية بنسبة 15%.

وبعد انتهاء المدة، يكون أمام المستأجر أحد خيارين: إما المغادرة، أو توقيع عقد إيجار جديد محدد المدة وبشروط يفرضها المالك، وهو ما يعني فعليًا انتهاء عصر "الاستقرار السكني" الممتد لعقود.

 

انقسام في البرلمان وغضب اجتماعي مكتوم
ورغم حساسية القضية، لم تُجرِ الحكومة حوارًا مجتمعيًا فعليًا، بل اكتفت بجلسات محدودة وسريعة، ومررت القانون خلال أيام قليلة.

وحذر عدد من النواب من أن القانون الجديد يحمل "شبهة عدم دستورية"، لأنه يُفسّر حكم المحكمة الدستورية بشكل يتجاوز ما نُص عليه، ويمنح المالك الحق في الإخلاء رغم عدم نص الحكم على ذلك.

 

اقتصاد مختلف.. وفقراء بلا بدائل
الجدير بالذكر أن قانون طرد الفلاحين عام 1992 لم يُشعل احتجاجات كبرى، ربما بسبب استقرار نسبي في الوضع الاقتصادي آنذاك.

أما في 2025، فالوضع مختلف تمامًا: معدلات التضخم في ارتفاع، وأسعار الإيجار والتمليك بلغت مستويات فلكية، بل إن امتلاك شقة صغيرة في منطقة شعبية أصبح حلمًا بعيد المنال للملايين.