لم تعد طاولات الطعام في بيوت المصريين تحتمل المزيد من التراجع في التنوع أو الجودة. ومع ارتفاع الأسعار وتدهور القدرة الشرائية، بات ملايين المواطنين يعيشون على وجبات تفتقر لأبسط العناصر الغذائية، فيما تكشف المؤشرات الصحية عن تزايد مقلق في أمراض مرتبطة بسوء التغذية، كالأنيميا، وهشاشة العظام، وضعف المناعة.

في قلب أحد الأسواق الشعبية بمدينة 6 أكتوبر، بمحافظة الجيزة، يقف حامد دعبس، المدير السابق بوزارة التعليم، حاملاً حقيبة بلاستيكية فيها بعض الخضراوات والبقوليات، بعد أن غيّر وجهته من مراكز التسوق الكبرى إلى الأسواق الشعبية. يقول دعبس إن دخله بعد التقاعد، والبالغ 5000 جنيه شهريًا، لم يعد يكفي لتوفير غذاء كافٍ وصحي لأسرته، خاصة مع الارتفاع المستمر في أسعار اللحوم والدواجن والألبان.

 

من "طبق الفول" إلى أنيميا الأسرة
يعيش محمود شفيق، موظف حكومي وأب لأربعة أطفال، حالة مشابهة، إذ يضطر للتخلي عن اللحوم والبيض ومنتجات الألبان لصالح وجبات أقل تكلفة، لكنها تسببت في مشكلات صحية واضحة له ولأطفاله، أبرزها فقر الدم، وفقًا لتقارير طبيب التأمين الصحي.

"وجبة فول صباحية وأخرى مسائية مع بعض الخبز تكلفنا يوميًا 150 جنيهًا، أي ما يتجاوز ثلثي راتبي"، يقول شفيق بأسى. "ولا نملك رفاهية شراء دواجن أو حتى بيض بانتظام"، مضيفًا أن الوجبات الغنية بالبروتينات تحوّلت إلى "كماليات".

 

رغيف الخبز.. السعر ثابت والحجم يتقلص
يبرز رغيف الخبز كرمز حاد لتأثير الغلاء على غذاء المصريين. يقول أحمد طلعت، طبيب أسنان حديث التخرج، وهو يُخرج رغيفًا صغيرًا من حقيبته: "لا يزال سعره جنيهًا، لكن حجمه لا يتجاوز ثلاث لقمات". ومع تراجع حجم الرغيف دون أن يتغير سعره، يصبح العبء مضاعفًا على الأسر الفقيرة التي تعتمد عليه كمصدر رئيسي للسعرات الحرارية.

ووفق دراسة للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، يشكّل القمح حوالي 39% من مدخول السعرات الحرارية اليومية للمصريين، ما يجعل التلاعب بجودة الرغيف مسألة أمن قومي غذائي.

 

أرقام مقلقة.. 40% من المصريين يعانون فقر الدم
في مؤتمر رسمي، اعترف وزير الصحة خالد عبد الغفار بواقع مقلق، كاشفًا عن إصابة 40% من المصريين بفقر الدم، وهو ما اعتبره "دليلًا على أن الغذاء هو بيت الداء".

ويؤكد الباحث الاقتصادي محمد إبراهيم، من مركز دراسات الأهرام، أن الأزمة لم تَعُد تخص الفقراء وحدهم، بل امتدت لتطال شرائح واسعة من الطبقة المتوسطة.

ويضيف: "تحوُّل ملايين الأسر إلى غذاء منخفض الجودة انعكس سريعًا على مؤشرات الصحة العامة، في ظل غياب حلول عملية من جانب الدولة".

 

أكاديميون يحذرون: تكلفة الغذاء السيئ أعلى من تكاليف العلاج
أستاذة التغذية العلاجية في المعهد القومي للتغذية، دعاء زكريا، تقول إن الحكومة يمكن أن تعالج أنيميا نقص الحديد من خلال دعم رغيف الخبز بمغذيات دقيقة، كإضافة الحديد وحمض الفوليك إلى الطحين. لكنها تحذّر من أن رفع سعر الرغيف أو تقليص حجمه يُناقض جهود الحد من سوء التغذية، خاصة أن اللحوم والفواكه والخضراوات باتت خارج متناول الملايين.

وتضيف: "سوء التغذية لا يعني فقط الجوع، بل أيضًا غياب العناصر الدقيقة الأساسية، وهو ما يؤدي إلى أمراض مزمنة ومضاعفات طويلة الأمد".

 

الأسواق تتأقلم.. والمنتجات الطازجة تتراجع
بحسب تجار ومزارعين، فإن سلوك المستهلكين تغيّر بشكل حاد. يقول حسن الناروزي، تاجر فواكه في سوق العبور، إن المبيعات انخفضت بشدة، "فالناس باتت تشتري الأساسيات فقط: الخبز، الزيت، البقوليات".

أما علي الفيومي، صاحب مزرعة دواجن، فيؤكد أن الركود ضرب السوق حتى بعدما تراجعت الأسعار بنسبة 30% خلال الشهرين الماضيين، مضيفًا أن تكلفة الإنتاج المرتفعة تترك المزارعين بين نارين: البيع بالخسارة أو الكساد.

ويحذر أخصائي التغذية محمد جمال من تزايد الاعتماد على وجبات رخيصة وسريعة التحضير، مشيرًا إلى أن البيض، الذي بدأ يختفي من مائدة كثير من الأسر، يحتوي على قيمة غذائية كبيرة لا يمكن تعويضها بسهولة.

 

أم منار: "نأكل ما يجعلنا نشبع.. لا ما يجعلنا نصحّ"
تحاول بعض الأمهات التكيّف مع الأزمة عبر شراء منتجات مجمّدة منخفضة السعر من "النقاط التموينية"، لكنها لا تثق في جودتها. تقول أم منار: "اشتري دجاج مجمد من التموين لأنه أرخص، لكني لا أعلم ما إذا كان آمنًا فعلاً". وتتابع: "حتى البلطي، سمك الفقراء، صار بـ120 جنيهاً، واللحمة البلدية لا نراها إلا في المناسبات".

 

سقوط العملة وتآكل الدخول
تعرض الجنيه لأربع موجات تخفيض بين 2022 و2024، ما أفقده ثلثي قيمته. وتسبب ذلك في قفزات متتالية في أسعار الغذاء، دفعت كثيرًا من الأسر إلى تقليص الإنفاق على التعليم والعلاج لتوفير الحد الأدنى من الطعام.

وتُظهر بيانات جهاز الإحصاء الرسمي أن معدل التضخم السنوي ارتفع في مايو إلى 16.8%، بعد أن سجل 13.9% في أبريل. وشهدت أسعار الفاكهة والخضراوات والأسماك والأدوية زيادات متتالية، ما زاد من عبء المعيشة.


مصر في "الخطر المتوسط" على مؤشر الجوع العالمي
بحسب مؤشر الجوع العالمي لعام 2024، تُصنّف مصر ضمن الدول التي تواجه "مستوى متوسطاً من انعدام الأمن الغذائي"، إذ جاءت في المرتبة 63 من أصل 127 دولة.

ويشير تقرير سابق للجنة الزراعة والري بمجلس الشيوخ إلى أن البلاد تعتمد على الأسواق العالمية لتوفير أكثر من نصف احتياجاتها الغذائية الأساسية، ما يجعلها عرضة لتقلبات الأسعار الدولية.