لم تعد "قصور الثقافة" في مصر تلك المنارات التي كانت يوماً ما رئة تتنفس منها المحافظات فناً وفكراً، بل تحولت في ظل حكم الانقلاب العسكري إلى "بيوت للأشباح" أو "خرابات" ينخرها الفساد والإهمال. ما يحدث في الهيئة العامة لقصور الثقافة ليس مجرد عجز إداري، بل هو جريمة متكاملة الأركان لقتل الوعي الجمعي، حيث تُركت المسارح لتأكلها النيران أو يغلقها الصدأ، بينما تُهدر الميزانيات في جيوب المنتفعين. إن الحالة المزرية التي وصلت إليها هذه الصروح تعكس رؤية النظام الحالي للثقافة: عدو يجب محاصرته، أو سلعة تافهة لا تستحق الإنفاق.
فساد "محمي" وميزانيات منهوبة
في الوقت الذي يتبجح فيه النظام ببناء القصور الرئاسية، تعاني قصور الثقافة من انهيار كامل في بنيتها التحتية بسبب فساد مالي وإداري يزكم الأنوف. تقارير حديثة كشفت عن وقائع فساد بملايين الجنيهات داخل الهيئة، تتعلق بمكافآت ومزايا مالية غير مشروعة لقيادات، بينما تفتقر المواقع الثقافية لأبسط مقومات التشغيل. الكارثة الأكبر تتجلى في قرارات إغلاق عشرات البيوت الثقافية في القرى والمحافظات (أكثر من 120 موقعاً) بحجة "عدم الجدوى" أو "ضعف الإمكانيات"، في خطوة وصفها مراقبون بأنها انسحاب متعمد للدولة من دورها التنويري لصالح الفراغ الذي يملؤه التطرف.
هذه القرارات ليست تقشفاً، بل هي عملية "تصفية" ممنهجة لأصول الدولة الثقافية، حيث يتم استئجار مقرات متهالكة لا تصلح للاستخدام الآدمي، وتعيين جيوش من الموظفين دون إنتاج حقيقي، مما يحول هذه الأماكن إلى "عزب" خاصة للفساد بعيداً عن أي رقابة حقيقية.
العسكرة وخنق الإبداع بالقوة
لم تنجُ الثقافة من قبضة "العسكرة" التي طالت كل مفاصل الدولة. التعامل مع الملف الثقافي يتم بمنظور أمني بحت، حيث تُحاصر الأنشطة وتُفرض الرقابة الصارمة على أي محتوى لا يسبح بحمد السلطة. تعيين قيادات غير مؤهلة أو ذات خلفيات بيروقراطية وأمنية على رأس المؤسسات الثقافية أدى إلى تراجع حاد في المنتج الثقافي. المثقفون الذين يرفعون أصواتهم بالنقد يتم تهميشهم أو إقصاؤهم، بينما يتصدر المشهد "موظفو الثقافة" الذين ينفذون التعليمات دون نقاش.
إن قرار إغلاق البيوت الثقافية بدلاً من تطويرها هو اعتراف صريح بفشل العقلية الأمنية في إدارة ملف الوعي، وفشل ذريع لوزراء ثقافة الانقلاب الذين تحولوا إلى مجرد سكرتارية لتنفيذ قرارات الهدم.
صرخة المثقفين: اغتيال للقوة الناعمة
يجمع الخبراء والمثقفون على أن ما يحدث هو "تجريف" متعمد لهوية مصر وقوتها الناعمة. يرى الكاتب الصحفي عبد الله السناوي أن أخطر ما تواجهه مصر الآن هو "غياب المشروع الثقافي" الذي يصون حرية التعبير والتفكير.
الانتقادات اللاذعة التي وجهها نواب ومثقفون لوزير الثقافة الحالي بسبب قرارات الغلق تؤكد أن النظام لا يرى في الثقافة إلا عبئاً مالياً يجب التخلص منه. إن ترك الساحات الثقافية خاوية، وإغلاق المسارح في وجه الشباب في القرى والنجوع، هو دعوة صريحة لانتشار الجهل والخرافة. فبدلاً من أن تكون قصور الثقافة حائط صد ضد الأفكار الهدامة، أصبحت هي نفسها ضحية لسياسات حكومة لا تجيد إلا لغة الخرسانة والحديد، وتخشى الكلمة والفكرة أكثر من خشيتها للفقر والجوع.

