شريف هلالي
محام وباحث حقوقي مصري
أفرجت الإدارة المصرية عن علاء عبد الفتاح بعد عفو رئاسي، ولكنها قبضت بعدها مباشرة على الباحث إسماعيل الإسكندراني، الذي سبق أن قضى سبع سنوات وراء القضبان بالاتهامات نفسها. هي الطريقة نفسها في إدارة السجون المصرية التي تراوح بين زيارات مبرمجة، فتبدو أشبه بأن تكون فنادق خمس نجوم، وواقع مأساوي غير مسبوق يعيشه آلاف السجناء، ما يمثّل مأزقًا وجوديًا لوضعية الحرّيات وحقوق الإنسان في مصر في السنوات الماضية.
سبّبت هذه الأوضاع تزايد معدّلات الاحتجاج في السجون من خلال الإضرابين الفردي والجماعي عن الطعام، ومحاولات الانتحار. وهو ما رأيناه خصوصًا في سجون الوادي الجديد ووادي النطرون، وبدر 3 الذي يُضرِب فيه عشرات من قيادات جماعة الإخوان المسلمين، الذين تجاوزت مدد حبسهم 12 عامًا، احتجاجًا على ظروف السجن ومنع الزيارات. يتوازى ذلك مع تزايد عدد الوفيات في السجون ومقارّ الاحتجاز لتصل إلى 50 حالة سنويًا، منهم مواطنون غير مسيّسين، قبض عليهم في تهم جنائية، يشتبه بأنهم توفوا تحت التعذيب أو بسبب سوء الرعاية الصحيّة. وهناك غياب لآليات قانونية نزيهة ومستقلة تحقّق في تلك الحالات، وتصدر تقاريرها للرأي العام.
وبالرغم من بناء عدة سجون جديدة في السنوات الماضية، ومنها مُجمَّعا سجون بدر ووادي النطرون، وإجراء عدة تعديلات على القانون المنظّم لها بتغيير تسمية "قطاع السجون" إلى "قطاع الحماية المجتمعية"، و"السجين" إلى "النزيل"، و"السجون" إلى "مراكز الإصلاح والتأهيل"، إلا أن هذه التعديلات لم تتجاوز مدلولها الشكلي، ولم تؤدِِّ إلى تحقيق أيّ إصلاح حقيقي في هذا المرفق، بل بالعكس؛ أصبحت المعاملة العقابية أكثر سوءًا، وغابت حقوق السجناء المنصوص عليها قانونًا، خاصّة الحقّ في الاتصال بالعالم الخارجي والحرمان من الزيارات، والرعاية الصحية، والمعاملة الإنسانية. واستمرار العقوبات التأديبية التعسّفية، كالحبس الانفرادي المطوّل أو النقل إلى سجون بعيدة من محلّ إقامة العائلة.
هذه الممارسات أصبحت لا تمثّل تجاوزات فردية فقط، بل تكشف نهجًا رسميًا داخل تلك المقار التي يمثّل فيها السجين الطرف الأضعف. وهناك عوامل تسهم في ذلك من هيمنة جهاز الأمن (بفرعيه العام والوطني) على إدارة السجون، وغياب شبه كامل للإشراف القضائي، يتمثّل في رؤساء المحاكم الابتدائية وأعضاء النيابة العامة. باستثناء عدة زيارات محدودة للنائب العام، تنتهي بالتأكيد إلى عدم وجود شكاوى من السجناء.
هناك أيضًا شكلية التعامل الحقوقي مع واقع السجون المتردّي إلا في حدود الزيارات المبرمجة سلفًا من المجلس القومي لحقوق الإنسان، التي لا يسمح فيها بمقابلة السجناء أو تلقّي شكاواهم، وتتم بغرض تجميل وجه الإدارة، ناهيك عن الغياب شبه الكامل لاستقلال السلطة القضائية بسبب تعديلات دستور عام 2019، أضف إلى إحالة الناشطين الذين يتحدّثون عن تجاربهم السابقة في السجون على محاكمات بتهم "نشر أخبار كاذبة"، في تغييب للحقّ في تداول المعلومات.
ويلاحظ في هذا السياق استمرار ردّة فعل وزارة الداخلية بنفي وإنكار أيّ إشارات إلى تلك الاحتجاجات، وغياب أيّ فعل من الجهات الرقابية على السجون. من جهة أخرى، تعبّر هذه التحرّكات اليومية عن فقدان الثقة في إدارة السجون، إذ يدرك المحبوسون أن الوسائل القانونية العادية (من شكاوى أو طعون قضائية) غير فعّالة، ومنحازة، ما يدفعهم إلى الاحتجاج. من ناحية أخرى، تقابل الإدارة المحبوسين بسياسات انتقامية مثل العزل أو الحرمان من الرعاية الطبية، وهذا يؤدّي إلى اتساع دائرة الاحتجاج.
ويمثّل تحوّل الاحتجاج داخل السجون المصرية إلى حدث شبه يومي دليلًا دامغًا على عمق الأزمة الحقوقية، مهما حاولت السلطات إنكار حجم الانتهاكات أو تقديم صورة مغايرة. كما أن هذه الظاهرة تُعمّق الشكوك في جدّية الإرادة الرسمية للإصلاح، اذ لم تنجح المبادرات التي نظّمتها الدولة، "الحوار الوطني" و"لجنة العفو الرئاسي" في حلّ المشكل الحقوقية. وما يزيد الأمر سوءًا استخدام آلية التدوير، أي إعادة إدراج المحتجزين في قضايا جديدة فور انتهاء فترة الحبس الاحتياطي، لتتحول مدّة الاحتجاز عقوبةً بلا حكم قضائي.
والاحتجاج أداة للفت انتباه الداخل والخارج إلى ما يحدّث من انتهاكات في السجون. وفي ظلّ وجود السجناء في وضع أضعف عمليًا، يصبح هذا الإضراب وسيلةً للضغط على السلطات أو لجذب تضامن دولي ومحلي. ويؤدّي المنع من الزيارة إلى حرمان آلاف العائلات من الحقوق الأساسية في التواصل مع ذويهم، ويولّد شعورًا متزايدًا بالظلم الاجتماعي والسياسي، ويصبح ملفّ السجناء عنصر احتقان مجتمعي دائم يؤثّر سلبًا في العلاقة بين المجتمع والدولة.
وهناك سيناريوهان مطروحان لحلّ المشكلة من جذورها: الأول متفائلٌ يتعلّق بما يمكن تسميته "تبييض السجون" من سجناء الرأي والمحبوسين احتياطيًا تمامًا، وإصدار قرارات عفو جماعية من مجلس النواب، وهذا مستبعد في الوقت الحالي.
وإلى أن يصبح هذا ممكنًا ينبغي القيام بعدة إجراءات، أهمها تحقيق إصلاحات أولية من خلال فتح السجون أمام منظّمات حقوق الإنسان المستقلّة، واحترام حقوق السجناء المنصوص عليها في القانون، وفتح تحقيقات مستقلّة في أسباب هذه الإضرابات ومحاسبة المسؤول عنها، وكذلك التحقيق في حالات الوفاة داخل مقارّ الاحتجاز.
أيضًا ينبغي تأكيد احترام ضمانات المحاكمة العادلة، وإنفاذ بنود الاستراتيجية الوطنية في أرض الواقع بمؤشّرات قياس وتقرير سنوي مستقل، واستغلال فرصة إعادة مشروع قانون الإجراءات الجنائية إلى مجلس النواب لإعادة دراسته بشكل كامل ووضع التحفّظات عليه في الاعتبار.
إذا لم يتم ذلك، ستزيد وضعية السجون سوءًا، ليظلّ الملفّ الحقوقي المصري مطروحًا بقوة أمام الهيئات المتخصّصة بمراقبة اتفاقات حقوق الإنسان، ويزيد من عمق الأزمة المجتمعية.