في مدينة العرائش المغربية، التي كان الملك محمد السادس يقضي بها عطلة مع أسرته، اشتعلت الشوارع بصيحات الغضب اليومي، وانطلقت مظاهرات شبابية تحت وسم #GENZ212، مطالِبة بالإصلاح ومحاربة الفساد وإنهاء التهميش. تلك المدينة التي ظنّ البعض أنها بعيدة عن النبض الشعبي، تحوّلت إلى إحدى المراكز التي تعكس عمق الأزمة المزمنة في المغرب، وتؤكد أن مطالب الأجيال الجديدة لم تعد تُهمَّش في المدن الكبرى فحسب، بل وصلت إلى كل ركن.
 

نفضة العرائش: مشاركة المدينة العتيقة في الحراك

في العرائش، خرج العشرات من الشباب والمواطنين إلى الشوارع، حاملين لافتات كُتب عليها «الكرامة مطلب» و«نريد صحة وتعليمًا»، مردّدين هتافات ضد الفساد وتبذير المال العام. وسرعان ما لُوحظ انخراط المدينة في الحراك الذي بدأ منذ أيام في عدة مدن مغربية، ما جعل العرائش تُعدّ نموذجًا للقوة الرمزية للحراك، الذي لا يحتاج إلى بروتوكولات رسمية أو زعامات تقليدية ليمتدّ إلى كل المدن.

نُشرت على صفحة “Larache 4Ever | العرائش إلى الأبد” على فيسبوك صورة يظهر فيها الشارع العام مكتظًّا بالمحتجين، مع تعليق يقول: “احتجاجات تشتعل في طنجة لليوم الثالث على التوالي… هاد المدينة د العرائش مخاصها خير؟ كناويينش ديرو فيهم شويا د النفس؟”

الصورة والعبارة توحيان بأن العرائش لم تكتفِ بدور المتفرّج، بل دخلت ساحات المواجهة، وساهمت في نشر الصوت الشعبي.
 

مطالب الحراك: بين التعليم والصحة والعدالة الاجتماعية

انطلقت المظاهرات منذ 27 سبتمبر 2025 بقيادة شبابية تُعرف باسم جيل زد 212 (GenZ 212)، منظمة رقميًا عبر تطبيقات مثل Discord وTikTok وInstagram، دون هيكل قيادي مركزي.
وقد سرعان ما انتشرت إلى مدن مثل الرباط، الدار البيضاء، مراكش، أغادير، وفاس.

تتركز مطالب المحتجين في ما يلي:

  • إصلاح المنظومة الصحية: وُجّهت أصابع الاتهام إلى إنفاق الدولة على ملاعب وبُنى تحتية رياضية، في حين أن المستشفيات والمرافق الصحية العامة تنهار. هذه المطالب تفجّرت بعد وفاة ثماني نساء في مستشفى عام بمدينة أغادير، وهي واقعة أثارت غضبًا شعبيًا كبيرًا.
  • إصلاح التعليم ورفع جودته، مع تحسين فرص الولوج للجامعات والمرافق التعليمية خصوصًا في المناطق النائية.
  • العدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد، وكذلك توجيه الإنفاق العام نحو القطاعات الاجتماعية بدل التباهي بالمشاريع الضخمة غير ذات الأولوية.
  • الوظائف والكرامة، خاصة بين صفوف الشباب، الذين يعانون من معدلات بطالة مرتفعة وشُحّ في فرص العمل الحقيقية.

في شعارات الحراك، تناقلت الحناجر عبارات أثّرت في قلب الرأي العام: «نريد مستشفيات، لا ملاعب» و«لا للكأس العالمي إذا لم تُعالج الأجساد أولًا».
 

تصاعد المواجهة وتدخل الدولة
مع اليوم الرابع من المظاهرات، تحوّلت بعض المسيرات من سلمية إلى اشتباكات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الأمن.

توقّف بعض المتظاهرين أمام البنوك أو محلات تجارية وأضرموا فيها النار، في حين استخدمت الشرطة الهراوات والغاز المسيل للدموع لتفريق الحشود.

في وجدة، أُصيب متظاهر بجروح بالغة بعد اصطدامه بسيارة أمنية، وفق ما نشرته وكالة الأنباء الأمريكية.

كما تم احتجاز عشرات الشباب أثناء المظاهرات، وجرى الإفراج عن بعضهم لاحقًا بكفالة في الرباط مثّل عدد من المعتقلين أمام القضاء.

وفي تطور رمزي، استدعت لجنة الشؤون الاجتماعية في البرلمان وزير الصحة أمين الطاهري لمساءلة عاجلة حول وضع قطاع الصحة، وتقديم خطة واضحة للإصلاح.

وقد أقال الوزير في أعقاب الاحتجاجات عددًا من المسؤولين الصحيين المحليين، بينهم مدير مستشفى الحسن الثاني في أغادير وعدد من مديري المناطق الصحية.

من جهتها، أصدرت الحكومة بيانًا أكدت فيه أنها "تفهم المطالب الاجتماعية" ومستعدة للتجاوب معها بطريقة إيجابية ومسؤولة، مشيرة إلى أنها ستفتح قنوات للحوار. كما نوّهت بأنها تقدّر تعامل الأجهزة الأمنية بما وصفته “الإجراءات القانونية المتوازنة”.
 

انعكاسات الحراك على المشهد الوطني

هذا الحراك الشاب حطّم صورًا نمطية تهمّش دور الأحياء والمدن الصغيرة، إذ إن العرائش، رغم كونها مدينة ذات طابع تاريخي وسياحي، برهنت أنها ليست بمنأى عن مطالب الناس الحقيقية وصرختهم في مواجهة التردي.

كما كشف الحراك عن أزمة الثقة المستفحلة بين الشباب والمؤسسات السياسية التقليدية. فالحركة لا تقودها أحزاب أو جمعيات، بل شبكات رقمية لا مركزية، ما يصعّب على السلطة احتواءها أو استيعابها ضمن أدوات السياسة المعروفة.

بالإضافة إلى ذلك، سلّط الضوء على التناقض بين الإنفاق الضخم على مشاريع البنية التحتية الرياضية الدولية، وبين التردّي اليومي للمرافق الصحية والتعليمية. هذا التناقض سخّر انتباه الرأي العام إلى أن التنمية لا تُقاس باستاد جديد بقدر ما تُقاس بمدرسة تعمل ومستشفى يُداوى فيه المريض بكرامة.
 

العرائش على خريطة الحراك

اختارت العرائش، بمدارجها التاريخية وشوارعها الهادئة، أن تنطق بصوت الثورة الاجتماعية. في هذا اليوم، أسهمت المدينة في تأكيد أن الحراك لا يُقاس بعدد المتظاهرين فحسب، بل بمدى قدرة المواطنين على تحويل مواقعهم إلى ساحات اعتراض ومطالبة. بينما تتعالى الصرخات في الرباط أو الدار البيضاء، يبزغ صوت العرائش في الزحام، ليذكّر القاصي والداني: هذا الوطن لنا جميعًا، وليس حكرًا على من يملك منصبًا أو سلطة.