في الوقت الذي تحتفل فيه حكومة الانقلاب العسكري بتحقيق "فائض" في الاستثمار الأجنبي المباشر بقطاع النفط والغاز بنحو 600 مليون دولار لأول مرة منذ خمس سنوات، تكشف الحقائق أن هذا "الإنجاز" المزعوم جاء على حساب تنازلات مذلة وامتيازات باهظة قدمتها الحكومة للشركات الأجنبية على حساب الاقتصاد المصري.

 

فبينما تسارع الدولة لسداد مليارات الدولارات من المتأخرات للشركات الأجنبية، ورفع أسعار شراء الغاز منها، والسماح لها بالتصدير رغم عجز الإنتاج المحلي، تواصل مصر استيراد الغاز المسال بأسعار قياسية تنهك احتياطي النقد الأجنبي. هذه السياسة الفاشلة حولت مصر من دولة مُصدّرة للغاز إلى مستوردة ذليلة تستجدي الشركات الأجنبية بالتنازلات لمجرد استمرار إنتاج لا يغطي حتى 10% من عجز الطلب المحلي.

 

سداد المتأخرات: أولوية الشركات الأجنبية على الشعب

 

الحكومة سددت منذ مارس 2024 أكثر من 3.5 مليار دولار من مستحقات الشركات الأجنبية، وتعهدت بسداد كامل المتأخرات البالغة نحو ملياري دولار بحلول الربع الأول من 2026. هذا السداد العاجل جاء بينما يعاني المصريون من أزمات خانقة في الكهرباء والوقود والأدوية والغذاء، في دليل صارخ على أن أولوية النظام هي إرضاء الشركات الأجنبية وليس خدمة الشعب.

 

المفارقة أن النظام الذي يعجز عن توفير الكهرباء للمواطنين صيفًا، ويفرض قطوعات يومية تصل لساعات، يسارع لسداد مليارات الدولارات للشركات الأجنبية بأموال القروض والمنح الخليجية. الخبير محمد زيدان يحذر من أن "الالتزامات في قطاع البترول ديناميكية؛ فكلما استمر الإنتاج تتولد استحقاقات جديدة"، ما يعني أن النزيف المالي لن يتوقف حتى لو سُددت المتأخرات الحالية.

 

تنازلات مذلة: رفع أسعار الغاز والسماح بالتصدير

 

لم يكتف النظام بسداد المتأخرات، بل قدّم حزمة من التنازلات المذلة لإرضاء الشركات الأجنبية على حساب الاقتصاد المصري. من ضمن هذه التنازلات رفع سعر الغاز الذي تشتريه الحكومة من حصة الشريك الأجنبي، رغم أن التكلفة على الدولة ستزيد، إلا أن زيدان يؤكد أنها ستظل أقل من عبء الاستيراد: "تتراوح أسعار الغاز المحلي حاليًا من 2.25 دولار إلى 4.50 دولار، مقابل الغاز المستورد 14 دولارًا".

 

والأخطر هو تطبيق نظام R-Factor على الاتفاقات البترولية، وهي آلية تسمح للشركة الأجنبية باسترداد تكاليفها بسرعة في البداية، ما يعني أن الشركة تستعيد ما أنفقته أولًا، وبعد أن تحقق أرباحًا، تبدأ الحكومة في الحصول على نسبة من الأرباح. زيدان يدعو لدراسة هذا النظام دراسةً متأنيةً لما يشكل من عبء مالي طويل الأجل على الاقتصاد المصري.

 

الأسوأ أن الحكومة سمحت للشركات الأجنبية بتصدير شحنات من الغاز هذا العام، رغم أن مصر تعاني من عجز هائل في الإنتاج المحلي يصل إلى 1200 مليون قدم مكعب يوميًا. هذه السياسة الانتحارية تعني أن النظام يسمح بتصدير الغاز بينما يستورد غازًا مسالًا بأسعار قياسية لتشغيل محطات الكهرباء، في نموذج فاضح على تقديم مصالح الشركات الأجنبية على احتياجات الشعب المصري.

 

واردات قياسية من الغاز: نزيف العملة الصعبة

 

بينما تحتفل حكومة الانقلاب بـ"فائض" الاستثمارات، وصلت واردات مصر من المواد البترولية في السنة المالية 2024/2025 مستويات غير مسبوقة، مدفوعةً بشكل أساسي بالتوسع في استيراد الغاز المسال والمنتجات البترولية. مصر تسعى لاستيراد ما يتراوح بين 155 و160 شحنة غاز مسال خلال 2025، بعدما كانت مُصدّرة للغاز قبل سنوات قليلة.

 

تراجع إنتاج مصر من الغاز الطبيعي خلال الربع الأول من 2025 بمقدار 2.74 مليار متر مكعب على أساس سنوي، فيما انخفض الإنتاج من أكثر من 6.6 مليار قدم مكعبة يوميًا إلى نحو 4.1 مليار، بينما الطلب المحلي يصل إلى 7 مليارات قدم مكعب يوميًا صيفًا. هذا العجز الهائل يُغطّى بالاستيراد الذي ينهك احتياطي النقد الأجنبي، ويزيد من أعباء الديون الخارجية.

 

اكتشافات محدودة لا تسد العجز الهائل

 

رغم الاحتفاء الحكومي بربط بئرين إضافيتين في غرب البرلس تنتجان 75 مليون قدم يوميًا، يشرح زيدان أن الطلب السنوي على الغاز في مصر ينمو بمعدل 10% إلى 12% سنويًا، فيما لا تمثل حصيلة الاكتشافات التي تخرج من الحقول القائمة أكثر من 10% من هذا الطلب. بمعنى آخر: مصر تركض في مكانها، والعجز في الإنتاج يتفاقم رغم كل الاستثمارات الجديدة.

 

زيدان يحذر من أن "عندنا عجز 1200 مليون قدم في الغاز، لما يدخل 75 مليون قدم (إنتاج جديد) فهذا يعني أننا ماشيين بمعدل أقل من النمو الحقيقي للطلب". والأسوأ أن عملية البحث والاستكشاف والإنتاج وربط خطوط الإنتاج من المناطق البحرية أو البرية "لا تستغرق أقل من خمس سنين"، ما يعني أن مصر ستظل رهينة للاستيراد لسنوات طويلة قادمة.

 

اعتماد خطير على الغاز الإسرائيلي

 

بينما تعاني مصر من أزمة إنتاج محلية، زادت اعتمادها على الغاز الإسرائيلي المستورد عبر الأنابيب، حيث تستورد حاليًا نحو 1.1 مليار قدم مكعب يوميًا من إسرائيل، على أن ترتفع الكمية تدريجياً إلى 1.2 مليار قدم مكعب يومياً اعتباراً من يناير 2026 بموجب اتفاق معدل يستمر حتى عام 2040. هذا الاعتماد الخطير يضع أمن الطاقة المصري رهينة للكيان الصهيوني، كما ظهر مؤخرًا عندما خفّضت إسرائيل صادرات الغاز لمصر بسبب "أعمال صيانة"، ما دفع القاهرة للتعاقد عاجلًا على شحنتين إضافيتين من الغاز المسال.