على مدى العقود الماضية، مثّلت تحويلات المصريين العاملين بالخارج أحد أهم مصادر النقد الأجنبي للدولة، إذ بلغت خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2025 نحو 23.2 مليار دولار، بحسب بيانات البنك المركزي المصري.
واستنادًا إلى هذه الأرقام الضخمة، سعت حكومة السيسي إلى إطلاق مشروعات تستهدف «تعظيم الاستفادة» من هذا المصدر الدولاري، بدءًا بمبادرة استيراد السيارات للمغتربين، وصولًا إلى مشروع «بيت الوطن» الذي وُصف بأنه قناة آمنة لاستثمار مدخرات المصريين في الخارج داخل السوق العقارية المصرية.
لكن سرعان ما تحوّل المشروع إلى بؤرة أزمة مالية وإدارية، بعد أن كشفت تقارير عدة عن مشكلات في التنفيذ، وتأخر تسليم الأراضي، وصعوبات في استرداد المقدمات الدولارية، وفقًا لما أورده موقع «مدى مصر» في تقرير موسع.
أزمة «بيت الوطن».. أراضٍ مجمّدة وأموال بلا فائدة
اعتمدت الحكومة خلال السنوات الماضية على الأراضي كمصدر رئيس للريع، خصوصًا في ظل أزمات النقد الأجنبي المتكررة، كما حدث في صفقة بيع رأس الحكمة، أو في طرح قطع أراضٍ تتراوح مساحتها بين 400 و800 متر مربع للمصريين المقيمين في الخارج.
وجمعت الدولة من المشروع حتى الآن نحو 7.3 مليار دولار، إلا أن مئات المشاركين ما زالوا عالقين في انتظار تسلّم أراضيهم أو استرداد أموالهم.
أحد هؤلاء، وهو مغترب شارك مع زميلين في استثمار 80 ألف دولار من مدخراتهم لشراء أرض ضمن المشروع، روى أنهم لم يتسلموا الأرض ولم يستردوا أموالهم حتى الآن، مشيرًا إلى أن استرداد المبالغ يتم «من دون أي فوائد»، ما يجعلها أشبه بأموال مجمّدة بلا عائد. واصفًا الوضع بأنه «تطفيش منظم» للمغتربين.
آلية معقّدة ومصير مجهول
تقوم فكرة المشروع على تسجيل المغتربين عبر موقع إلكتروني رسمي، لاختيار قطع الأراضي المتاحة، ودفع المقدمات بالدولار مقابل حصولهم على كود حجز مبدئي. وبعدها يصدر البنك المركزي تقريرًا لترتيب الأولويات، لتخصيص الأراضي تبعًا لتاريخ الدفع.
غير أن فترات الانتظار الطويلة، وغياب آليات واضحة للتعويض أو الفوائد، جعلت العديد من المتقدمين يفقدون الثقة في المشروع، خصوصًا أن بعضهم لجأ إلى الاقتراض أو الشراكة مع مستثمرين خليجيين لتمويل المقدمات.
حتى بعد التخصيص، لا تنتهي الأزمة؛ فالأراضي لا تُسلّم إلا بعد الانتهاء من المرافق، مثل المياه والكهرباء، ما يؤدي إلى تأخير إضافي. بينما نسبة ضئيلة فقط من المستفيدين تبني فعليًا على أراضيها، في حين تتجه الغالبية إلى بيعها للمطورين والسماسرة الذين يشكّلون ما بين 50 و90% من المستفيدين الفعليين من المشروع.
وفي وسط هذه الفوضى، يبقى المصريون في الخارج الخاسر الأكبر.
"استراتيجية الضرر".. الحكومة تربح والمغترب يخسر
بحسب تقرير «مدى مصر»، يواجه من يرغبون في استرداد أموالهم دوامة بيروقراطية معقدة، إذ يتنقّلون بين الجهات الحكومية المختلفة من دون نتيجة، وغالبًا ما يُطلب منهم التواصل عبر البريد الإلكتروني من دون أي ردود.
مصدر في جمعية التطوير العقاري أوضح أن إثارة أزمة استرداد الأموال وراءها أحيانًا شبكات من السماسرة والمقاولين المرتبطين بشخصيات نافذة، للضغط على الحكومة كي تطرح أراضي جديدة في مناطق محددة، ما يحقق لهم أرباحًا كبيرة.
في المقابل، يرى مغتربون أن الحكومة تحتفظ عمدًا ببعض الأراضي لتطرحها لاحقًا كمحفّز لجذب تحويلات دولارية جديدة، خاصة في المدن القريبة من القاهرة حيث الطلب مرتفع، بينما تتحول الأراضي في المدن البعيدة إلى طُعمٍ لجذب الأموال من دون جدوى حقيقية.
مشروع عقاري أم فخ مالي؟
يبدو أن مشروع «بيت الوطن» تحوّل من مبادرة وطنية إلى كمينٍ لجذب أموال المصريين بالخارج، في ظل غياب خطة واضحة أو شفافية في الإدارة.
فبدلًا من تحويل التحويلات الدولارية إلى استثمارات إنتاجية تسهم في التنمية، جرى توجيهها نحو المضاربات العقارية التي تخدم المطورين والسماسرة أكثر مما تفيد الاقتصاد الوطني.
والنتيجة أن الحكومة تمارس نفس سلوك المضاربين، فهدفها جمع الدولارات بأي وسيلة، لا بناء ثروة وطنية مستدامة.
أزمة ثقة.. وسوق عقارية على حافة الانهيار
هذا المشهد الفوضوي ينعكس مباشرة على ثقة المصريين بالخارج، الذين بدأ كثير منهم في العزوف عن الاستثمار داخل مصر، بعد أن تكررت مشكلات مماثلة في مشاريع أخرى.
كما أسهمت سياسات «جمع الدولار» في إعادة إنتاج أزمات سوق العقارات، وهو سوق يعاني أصلًا من فائض معروض وارتفاع غير منطقي للأسعار.
ويحذر خبراء من أن استمرار هذا النهج سيزيد من هشاشة السوق العقارية، التي تمثل الركيزة الأساسية للاقتصاد المصري خلال العقد الأخير، بما يجعل أي تراجع حاد فيها خطرًا على بنية الاقتصاد ككل.
فبدلًا من تنظيم السوق وفرض ضرائب تحدّ من المضاربات، تُصرّ الحكومة على استغلال القطاع لجمع السيولة الدولارية، ولو على حساب استقراره واستدامته.
نحو رؤية بديلة
المطلوب اليوم، وفق محللين اقتصاديين، هو تحوّل جذري في السياسات، يبدأ من توجيه أموال المصريين بالخارج إلى مشروعات إنتاجية وصناعية تحقق عائدًا حقيقيًا للدولة، بدلًا من استمرار ما يسمّى "الفهلوة العقارية".
كما ينبغي فرض ضرائب تصاعدية على المضاربات العقارية، وتشجيع الاستثمار في قطاعات الزراعة والصناعة والتكنولوجيا، لضمان تنويع مصادر الدخل واستعادة ثقة المستثمرين في الداخل والخارج.

