في الوقت الذي احتفت فيه مدينة نيويورك بانتخاب زهران ممداني كأول مسلم وأصغر عمدة في تاريخها الحديث، كان المشهد في مصر يعكس نقيضًا كاملًا، حيث تتراكم ملفات الفساد في المحليات، وتتآكل الثقة في مؤسسات الحكم المحلي.
فوز ممداني لم يكن مجرد نتيجة اقتراع، بل شهادة جديدة على حيوية الديموقراطية المحلية حين تُدار بشفافية ومساءلة. أما في مصر، فإن غياب الانتخابات المحلية منذ 17 عامًا جعلها بيئة خصبة للمحسوبية، وأبعد ما تكون عن تمثيل المواطن أو خدمة قضاياه اليومية.
وبمجرد إعلان فوز زهران ممداني برئاسة بلدية نيويورك، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي في مصر بسيل من المقارنات بين التجربتين؛ إذ نشر ناشطون ومغردون صورًا تكشف تكدّس القمامة في الشوارع الرئيسية والأحياء السكنية، بل وحتى أمام المدارس والمستشفيات، في مشهد يعكس تراجع الخدمات البلدية وغياب المساءلة المحلية. وراح كثيرون يتساءلون: لماذا لم تُجرَ انتخابات المحليات في مصر حتى الآن؟ رغم أن البلاد أحوج ما تكون إلى مسؤولين منتخبين من المواطنين أنفسهم، قادرين على إدارة شؤون النظافة والطرق والخدمات العامة، على غرار ما حدث في نيويورك.
فآخر انتخابات محلية عرفتها مصر تعود إلى عام 2008، حين هيمن الحزب الوطني الحاكم آنذاك على معظم المجالس. وبعد ثورة يناير 2011، شكّل المجلس العسكري مجالس مؤقتة إلى حين صدور قانون جديد للمحليات، لكن التشريع ظلّ حبيس الأدراج حتى اليوم، في ظل استمرار اعتماد قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي على نظام التعيين المباشر للمحافظين ورؤساء الأجهزة المحلية.
وطوال السنوات الماضية، تكررت المطالبات البرلمانية والسياسية بضرورة إقرار قانون الإدارة المحلية، باعتباره خطوة أساسية لمكافحة الفساد المستشري في أجهزة المحليات، إلا أن الحكومة – بحسب نواب – لا تُبدي إرادة حقيقية للمضي في هذا المسار.
ويؤكد رئيس حزب العدل عبد المنعم إمام أن استمرار هذا الجمود جعل نواب البرلمان يتحولون إلى “نواب خدمات”، منشغلين بمطالب الأهالي اليومية بدلًا من أداء دورهم التشريعي والرقابي، فيما يدفع المواطن وحده ثمن تدهور الخدمات وسوء الإدارة.
وأوضح إمام أن قانون الإدارة المحلية يمثل استحقاقًا دستوريًا مؤجلًا، لافتًا إلى أن حزب «العدل» كان من أوائل الأحزاب التي تقدّمت بمشروع قانون متكامل ينظم عمل المحليات. وقال إن الحكومة تعمّدت، منذ عام 2017، إبطاء مسار إصدار القانون، في إطار سياسة تهدف إلى تغييب المجالس المحلية المنتخبة، وتعطيل الرقابة الشعبية على أداء الأجهزة التنفيذية في المحافظات والأحياء، وفقًا لـ«العربي الجديد».
وتُعدّ المحليات في مصر، وفق مراقبين، أوسع بؤر الفساد الإداري انتشارًا، في ظل استفحال الرشاوى المالية مقابل منح التراخيص بمختلف أنواعها. وكان الجهاز المركزي للمحاسبات قد قدّر حجم الفساد داخل أجهزة المحليات ومؤسسات الدولة بنحو 600 مليار جنيه خلال ثلاث سنوات فقط، أي ما يعادل قرابة 12.6 مليار دولار، ما يعكس حجم الهدر وضعف منظومة المتابعة والمساءلة في هذا القطاع الحيوي.
ويشكل نظام تعيين المحافظين في مصر بقرار من رئيس الجمهورية جزءًا من الهيكل الإداري للدولة منذ عقود طويلة، على الرغم من المطالبات المتزايدة بتطبيق اللامركزية وانتخابهم. وعادة ما يسيطر لواءات الجيش والشرطة على تشكيل حركة المحافظين منذ عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، رغم عدم سابق خبرتهم بشؤون الأجهزة المحلية، وذلك بهدف تمكينهم من مفاصل الدولة على حساب المدنيين.
جهود مخلصة وأفكار إصلاحية
وفي سياق المقارنة بين التجربتين المصرية والأميركية، رأى السفير معصوم مرزوق، مساعد وزير الخارجية الأسبق، أن فوز ممداني في مدينة نيويورك يمثل «مكافأة متأخرة» لجهود مخلصة وأفكار إصلاحية لطالما قوبلت بالاستخفاف، لكنها أثبتت في النهاية جدواها.
وأوضح أن هذا الفوز ليس نهاية المعركة، بل بدايتها، لأن “قوى النفوذ والمال” ستسعى لإجهاض التجربة، ما يتطلب — على حد تعبيره — استعدادًا واعيًا وجهدًا مستمرًا لضمان نجاح التجربة واتساعها، وصولًا إلى تجفيف منابع الدعم المعنوي والسياسي لما سماه “كائن الصهيونية المتوحش”.
وفي المقابل، تغيب الانتخابات المحلية عن المشهد المصري تمامًا، إذ لم تُدرج الحكومة أي مخصصات مالية لإجرائها ضمن موازنة العام المالي 2025-2026، رغم إتمام الانتخابات التشريعية لمجلسي النواب والشيوخ في النصف الثاني من العام نفسه. وكشف مصدر برلماني أن البلاد لن تشهد انتخابات بلدية قبل الانتهاء من تعديل دستوري مرتقب يُتوقع طرحه في عام 2027، يتضمن تغييرًا شاملًا في المواد المنظمة للمحليات، ويمهّد أيضًا لتمديد فترة حكم قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي حتى عام 2036 عبر مادة انتقالية تسمح له بالترشح لولاية رابعة مدتها ست سنوات، وفقًا لـ«العربي الجديد».
وبحسب المصدر ذاته، فإن تعطيل إصدار قانون المحليات يرتبط مباشرة بصلاحيات المجالس المحلية المنصوص عليها في الدستور، والمتمثلة في متابعة خطط التنمية ومراقبة الأجهزة التنفيذية، وهي صلاحيات يعتبرها النظام السياسي تهديدًا لمنظومة الإسناد المباشر التي تمنح عقودًا ضخمة لشركات تابعة للمؤسسة العسكرية، وعلى رأسها جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، من دون رقابة حقيقية أو مساءلة شعبية.
مقارنة بين الانتخابات في مصر وأمريكا
المشهد الأمريكي يعطي مثالًا على انتخابات ديموقراطية فعلية، بينما المشهد المصري يكشف أزمة عميقة في الإدارة المحلية والمساءلة. المقارنة بين الحالتين تقول الكثير عن «كيف يُفترض أن تكون» مقابل «كيف أصبحت».
فوز زهران ممداني: تحول ديموقراطي مميز
- في 4 نوفمبر 2025، انتُخب زهران ممداني، البالغ من العمر 34 عامًا، عمدةً لمدينة نيويورك، ليصبح أول مسلم وأصغر من يتسنّم هذا المنصب منذ أكثر من قرن.
- حملته تميزت بتركيز على موضوعات مثل رفع الأجور، تجميد الإيجارات، والحافلات المجانية، مع التمويل من فرض ضرائب على الأثرياء.
- انتصار ممداني جاء عبر نظام انتخابي شفاف، مشاركة واسعة، وحملة قوية، ما جعله نموذجًا لما قد تكون عليه القيادة المحلية في سياق ديموقراطي نشط.
- هذا النموذج يضع معايير واضحة: تنافس حقيقي، إشراك الناخبين، محاسبة السلطات، ووضوح الخيارات.
محليات مصر: ضعف الحوكمة وأزمة اللامساءلة
- في مصر، تُظهر دراسات أن المجالس المحلية فقدت مهمتها الديموقراطية، إذ لا سلطات حقيقية لديها، والمركزية الإدارية تسيطر على القرار المحلي.
- واحد من مظاهر الفساد المحلي: رشوى إصدار تراخيص البناء، الاستغلال الإداري، الميزانيات التي يُشار إلى استخدامها دون رقابة فعالة
- غياب الانتخابات المحلية الفعلية يمنح أجهزة التنفيذ مجالًا واسعًا للتحكم، مما يُضعف المحاسبة ويُضعف الخدمات المقدّمة للمواطنين
- النتيجة: تراجع ثقة المواطنين بالسلطات المحلية، وانتشار للشبكات المحسوبية بدل أنظمة الشفافية والمساءلة.
ما الذي يُمكن أن تتعلّمه مصر من هذا المثال؟
- تفعيل الانتخابات المحلية بشكل حقيقي: فتح المجال للمنافسة، وإشراك المواطن.
- تعزيز الشفافية والمساءلة: نشر البيانات، رقابة المجتمع المدني، ومنح صلاحيات للوائح محلية فعالة.
- تحويل الوعد إلى خدمة: ليس فقط انتخاب قيادة، بل مساءلتها على تقديم خدمات ملموسة.
- تقليص المركزية المفرطة: تمكين المجالس المحلية حتى تصبح فعليًا أقرب إلى الناس.
إن فوز ممداني ليس مجرد حدث انتخابي، بل يمثل تحوّلًا في نمط القيادة المحلية في أكبر مدينة أمريكية. في المقابل، تشكّل أزمة المحليات في مصر أحد المعوّقات الرئيسة للتنمية المحلية والعدالة الإدارية.
ولكي تتحول المحليات في مصر إلى ساحة فاعلة للمشاركة والتنمية، ليس كافٍ مجرد إعادة الجمعيات أو المجالس، بل إعادة بناء الثقة ونظام القرار المحلي بحيث تصبح المحليات خدمة للمواطن، وليس منصّة للمحسوبية.
الكثير من الدروس تُقدّمها هذه المقارنة، وقد يكون الإصغاء إليها هو أول خطوة نحو إصلاح حقيقي.

