منذ ساعات، خرج مصطفى مدبولي ليعلن أن الحكومة تستهدف تحلية 5 ملايين متر مكعب يوميًا من مياه البحر خلال خمس سنوات، على أن تُرفع الكمية لاحقًا إلى 10 ملايين متر مكعب يوميًا، ما يكشف عن تحوّل “حق مصر التاريخي في النيل” من شعار السيادة إلى مشروع للتحلية؟ في وقت قد فرض مدبولي نفسه حالة التقشف المائي، وخفض للزراعات، وفرض إعادة استخدام مياه الصرف.
التصريح بدا في ظاهره خطة “طموحة” لمواجهة أزمة المياه، لكنه في جوهره إعلانٌ رسميٌّ عن فشل الدولة في حماية نهر النيل، واعترافٌ ضمنيٌّ بأن “الخط الأحمر” الذي رسمه السيسي صار حبرًا على ورق.

 

أولاً: من “الخط الأحمر” إلى الانحناء أمام السد
منذ عام 2019، ردد السيسي في كل مناسبة أن “المساس بمياه النيل خط أحمر”، وهدد في 2021 بأن “اللي عايز يجرب يقرب”.
لكن في العام 2025، وبعد اكتمال تشغيل سد النهضة وارتفاع مخزون بحيرته لأكثر من 60 مليار متر مكعب، لم تتخذ القاهرة أي إجراء حقيقي — لا سياسيًا ولا دبلوماسيًا — سوى بيانات باهتة تدعو إلى “الاستمرار في التفاوض”.
النتيجة: إثيوبيا فرضت أمرًا واقعًا، والسد يعمل بكامل طاقته، بينما تراجعت حصة مصر الفعلية بفعل التبخر والانحباس.
وبينما كان المواطن ينتظر ردًّا قويًا، كان ردّ الحكومة مشروع تحلية مياه البحر. أي أن الخط الأحمر لم يُحمِ النهر، بل تم تحويل مجراه السياسي إلى البحر!

 

تصريحات مدبولي… “التحلية” بدل السيادة
تصريحات مدبولي الأخيرة هي النقطة المفصلية في الخطاب الرسمي، فبدل الحديث عن استرداد الحقوق، جاء التركيز على “خطط التحلية وإعادة الاستخدام” كحل دائم، لا مؤقت، وقال رئيس الوزراء نصًّا: “نستهدف تحلية 5 ملايين متر مكعب يوميًا خلال خمس سنوات، ثم نرفعها إلى 10 ملايين”.
لكن لم يُجب أحد عن سؤال بديهي: لماذا تُنفق مليارات الجنيهات على تحلية البحر — وهي أغلى الوسائل تكلفة — بينما تملك مصر نهرًا كان يفيض بالماء منذ آلاف السنين؟
فالتحلية ليست إنجازًا عندما تكون تعويضًا عن تقاعس سياسي؛ بل هي إعلان استسلام هندسيّ بعد هزيمة دبلوماسية.

 

استخدام مياه الصرف… من إدارة الأزمة إلى تطبيع العجز
ترافق إعلان مدبولي مع تباهي الحكومة بتشغيل محطات معالجة مياه الصرف مثل “بحر البقر” و“الحمام”، التي يُعاد ضخ مياهها للري والزراعة، وفي حين يصفها الإعلام الموالي بـ“الإنجازات العملاقة”، فإن الواقع يشي بعكس ذلك، فمصر تعيد استخدام المياه الملوثة التي كانت تُصرف للنهر أو البحيرات، وتزرع بها أراضي سيناء والدلتا، ما يرفع خطر التلوث والتملح، وتعلنها الحكومة “حلولاً مستدامة”! أي أن الدولة تُحوِّل نفاياتها إلى غذاء مواطنيها، وتقدّمها كعلامة على “الكفاءة”.
هذا التحول من حماية المصدر الطبيعي (النيل) إلى تدوير الفضلات يعكس سقوط مفهوم الأمن المائي لصالح “إدارة الجفاف”.

 

تقشف على الفلاحين وتبذير في المشروعات
في الوقت الذي تطلب فيه الحكومة من الفلاحين “ترشيد المياه” و”تقليل المساحات المزروعة”، تُنفق مليارات على مشروعات العاصمة الإدارية وطرق الخرسانة في الصحراء.
وزارة الري تمنع زراعة الأرز في محافظات كاملة بدعوى أنه “يستهلك الماء”، بينما تغرق ملاعب الجولف والفنادق الجديدة في المياه المعالجة.
يُقال للفلاح: “وفر الماء من أجل الوطن”، بينما الوطن يُهدره في مشروعات بلا جدوى إنتاجية.
التقشف المائي المفروض على الفقراء ليس سياسة إدارة، بل سياسة تحميل الأعباء على أضعف فئات الشعب لتغطية عجز الحكومة عن إدارة الملف من منبعه.

 

التحلية والديون… فاتورة العطش
تحلية المياه ليست فقط بديلًا مكلفًا، بل عبءٌ ماليٌّ إضافي، فتحلية المتر المكعب الواحد من مياه البحر تكلف ما بين 15 و25 جنيهًا، بينما إنتاجه من النيل لا يتجاوز 2 جنيه.
ومع اعتماد الدولة على القروض والشركات الأجنبية لتنفيذ مشروعات التحلية، تصبح مصر مدينة لشراء الماء الذي كان مجانيًا، وبهذا المعنى، فإن “مشروعات التحلية” ليست سوى تحويل العطش إلى استثمار، وخصخصة آخر موارد السيادة.

 

من الشعارات إلى العجز المؤسسي
تحوّل ملف المياه في عهد السيسي ومدبولي من “ملف سيادي” إلى “خطة مشروعات”، فتوقفت القاهرة عن الدفاع عن النيل في المحافل الدولية، وأصبح وزير الري يتحدث عن “تعايش مع الأزمة”، أما الإعلام، فاستبدل لغة “التهديد” بلغة “التحلية”.

وهكذا انتقلت مصر من موقع الدولة التي كانت تفاوض من منبع القوة إلى دولة تُعلِّم مواطنيها كيف يشربون أقل ويزرعون أقل، وتبرّر ذلك بأنه “تطور حضاري”.
وأخيرا فتصريحات مدبولي الأخيرة لم تكن مجرد إعلان عن خطة فنية لتحلية المياه، بل شهادة رسمية على فشل الدولة في حماية نهرها.
لقد تحوّل “الخط الأحمر” الذي رسمه السيسي إلى خط ماء مالح، وتحوّلت “سياسة الردع” إلى سياسة التعوّد على العجز.

 

في النهاية، يظل الفارق بين القول والفعل صارخًا:
قالوا “لن نفرّط في نقطة من النيل”، ففقدنا حصتنا التاريخية من النهر.

وقالوا “سنحافظ على حقوقنا المائية”، فأهدرنا المليارات على تحلية مياه الصرف الصحي.
وقالوا “سنضمن مستقبل الأجيال”، فالواقع يقول أن السيسي ومدبولي ستركان لهم عطشًا مملّحًا وحقولًا جافة.