في الوقت الذي تُروّج فيه الحكومة المصرية إلى صفقات ضخمة مع صناديق خليجية تحت شعار «جذب الاستثمار»، يبدو أن الواقع يقول شيئاً مختلفاً: إذ تُقدّم الأصول العقارية المصريّة كأنها قرشاً في ميزان، وتسمح بتمكين مستثمرين أجانب من السيطرة على أراضٍ مصرية، بينما يبقى المواطن المصري بعيداً عن المكاسب الحقيقية.
وإن محاولة تحليل ما يجري من صفقات – وعلى رأسها نشاط الثلاثة الصناديق الخليجية الكبرى – تكشف أن الأمر ليس مجرد استثمار بل هو تفريط، واختزال سيادة البلاد الاقتصاديّة في مصلحة رأس المال الخارجي، مع مخاطر حقيقية على المدى البعيد.

تتواصل سياسة الحكومة المصرية في تقديم أصول الدولة العقارية “كفرص استثمارية” أمام الصناديق الخليجية، في وقت تتصاعد فيه الديون ويعاني الاقتصاد من تراجع حاد في موارد النقد الأجنبي.

وبحسب مصادر تدرس ثلاثة صناديق خليجية — أحدها إماراتي، وآخر سعودي، وثالث كويتي-قطري — استثماراً يتجاوز 80 مليار جنيه في السوق العقاري المصري.
لكن ما تروّج له الحكومة كـ"استثمار ضخم" يراه مراقبون تفريطاً متعمداً في أصول المصريين لصالح رأس المال الخليجي، في عملية “بيع ناعم” للأراضي والعقارات الوطنية تحت غطاء الشراكة والتنمية.
 

تفاصيل الصفقات المثيرة للجدل
تشمل الكيانات المعنية صندوق أبوظبي كابيتال، وصندوقاً تابعاً لشركة سمو القابضة السعودية، وصندوقاً كويتياً-قطرياً مشتركاً.
وتتركّز الدراسات على مشروعات في الساحل الشمالي، والبحر الأحمر، ووسط القاهرة — ولا سيما في مناطق وسط البلد والمطلة على النيل حيث يجرى التفاوض لشراء أراضٍ لإقامة مشروعات فندقية وسياحية كبرى.

ورغم أن الحكومة تصف هذه التحركات بأنها “جذب للاستثمار الأجنبي”، يرى خبراء الاقتصاد أن الخطوات تمثّل بيعاً تدريجياً لأصول الدولة في مواقع استراتيجية لن يستفيد منها المواطن البسيط بشيء.
 

من الاستثمار إلى الاستحواذ
تُذكّر هذه الخطط بصفقة رأس الحكمة مع الصندوق الإماراتي “ADQ”، التي بلغت قيمتها 35 مليار دولار ومنحت الإمارات حق تطوير المدينة لعقود طويلة، فيما اكتفت مصر بحصة رمزية.
اليوم، تتكرر الصورة نفسها عبر ثلاثة صناديق جديدة تمتلك صلاحيات “تطوير” أراضٍ مصرية في مواقع شديدة الحساسية، من دون شفافية في نسب المشاركة أو آليات الرقابة.

النقد هنا لا يرفض الاستثمار، بل يرفض أن تتحول الشراكات إلى استحواذ فعلي، وأن يُباع الشاطئ والوسط التجاري والمناطق المطلة على النيل بأقل من قيمتها الحقيقية.
 

وسط القاهرة… من ذاكرة المصريين إلى مشروعات للنخبة
يرى مسؤولون حكوميون أن الصناديق الخليجية تركّز اهتمامها على منطقة وسط القاهرة لما تملكه من جاذبية استثمارية عالية، ويجري التنسيق مع جهات سيادية لتسهيل نقل ملكيات الأراضي وتغيير استخداماتها.
غير أن محللين يؤكدون أن هذا التوجه يمس هوية العاصمة وتاريخها الاجتماعي، إذ يجري تفريغ المنطقة من سكانها الأصليين لتحويلها إلى وجهة فندقية وسياحية فاخرة لا تخدم إلا المستثمر الأجنبي والطبقة الثرية.

المليارات المعلنة تُغري الإعلام الرسمي بالحديث عن “نهضة حضارية”، لكن الحقيقة أن ملكية المصريين تنتقل تدريجياً إلى غيرهم.
 

الساحل الشمالي والبحر الأحمر… الوجهة الجديدة للمال الخليجي
لم يقتصر الاهتمام على العاصمة، فالصناديق الثلاثة تدرس كذلك مشروعات على ساحلي البحرين المتوسط والأحمر.

وتشير المصادر إلى أن منطقة الساحل الشمالي صارت الأكثر جاذبية بعد تطوير البنية التحتية الحكومية فيها، بينما تشهد منطقة البحر الأحمر اهتماماً خاصاً بمشروعات فندقية ضخمة.
غير أن كل هذه الاستثمارات موجّهة نحو القطاع السياحي الفاخر، ولا تخلق قيمة مضافة حقيقية أو فرص عمل مستدامة للمصريين، لتتحول الأراضي إلى منتجعات مغلقة مملوكة للخارج.
 

بين العجز والارتهان الاقتصادي
تقول الحكومة إن هذه الصفقات ضرورية لتوفير النقد الأجنبي وسد عجز الموازنة، لكن الواقع أن الاعتماد المتزايد على الأموال الخليجية يحوّل القرار الاقتصادي المصري إلى رهينة في يد المستثمر الأجنبي.
وما يُروّج له كـ"شراكة استراتيجية" ليس سوى تفريط في السيادة الاقتصادية مقابل إنقاذ مؤقت من أزمة العملة، دون رؤية حقيقية لبناء اقتصاد منتج أو تحسين حياة المواطنين.
 

وأخيرا فالحديث عن “80 مليار جنيه استثمارات خليجية” يبدو في ظاهره إنجازاً، لكنه في جوهره يعكس بيعاً تدريجياً لثروة المصريين على شواطئهم ونيلهم وعاصمتهم التاريخية.

وما لم تتغيّر السياسات، ويُفتح باب النقاش العام حول تفاصيل تلك الصفقات، فستتحول كلمة “استثمار” إلى مرادف جديد لـ“التفريط”، وستستيقظ الأجيال القادمة لتجد أن الأراضي التي كانت يوماً مصرية أصبحت غريبة عنها، باسم التنمية وجذب الأموال.