بينما تؤكد رانيا المشاط، وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي، أن ديون مصر “لا تزال ضمن الحدود الآمنة”، وأن “التصنيف الائتماني في تحسّن مستمر”، يعيش المواطن واقعاً اقتصادياً يصرخ بالعكس تماماً.

فبدلاً من الإنتاج والعمل والابتكار، أصبح الاقتصاد المصري رهينة القروض وصفقات البيع، وباتت الحكومة تسدد الديون ببيع الأصول الوطنية لا بعائدات التنمية.

وفي هذا التقرير نكشف المفارقة الصارخة بين تصريحات الوزيرة المطمئنة وبين الأرقام التي تؤكد أن سياسات الحكومة أوصلت البلاد إلى حافة الإفلاس، حيث تُباع ممتلكات الدولة لتغطية فوائد ديون لا تنتهي.

 

أكذوبة “الحدود الآمنة”
تستخدم وزيرة التخطيط مصطلح “الحدود الآمنة” كمظلّة لغوية تخفي وراءها تصاعداً غير مسبوق في الديون الخارجية والداخلية.
فبحسب بيانات المؤسسات الدولية، بلغت التزامات مصر الخارجية أكثر من 55 مليار دولار خلال عامي 2025 و2026، يُستحق منها ثلث هذا المبلغ خلال العام الحالي وحده، لكن الحكومة لا تملك خطة إنتاجية حقيقية للسداد، بل تعتمد على دوامة الاقتراض لتسديد اقتراض سابق.
أما “الحدود الآمنة” التي تتحدث عنها الوزيرة فهي مجرد مفهوم حسابي مضلل، فكلما ارتفع الدين، توسّع التعريف الرسمي لـ“الآمن” ليغطي مزيداً من العجز والفشل.

 

وزيرة التخطيط… تبرر الاقتراض وتلمع الانهيار
منذ بداية ولايتها، دأبت الوزيرة على تقديم تجميلات لغوية وفنية لتبرير الأوضاع المالية، بالحديث عن “تحسن التصنيف الائتماني” و“ثقة الشركاء الدوليين”.
لكن هذه التصنيفات لا تعني شيئاً إذا كانت قائمة على الديون نفسها، إذ تمنحها المؤسسات المالية مكافأة على استمرار السداد بأي ثمن، حتى لو كان الثمن بيع مصر بالأقساط.
تتحدث الوزيرة عن اتفاقيات أوروبية “تدعم الاقتصاد”، بينما هي في حقيقتها قروض جديدة مشروطة وعمليات “دين مقابل استثمار” تُرهن من خلالها أصول الدولة لصالح الخارج.
بهذا الأسلوب، تتحول وزارة التخطيط من جهة “ترسم المستقبل” إلى شركة مقاولات مالية مهمتها سد الفجوات عبر بيع الأصول وتمديد آجال السداد.

 

بيع الأصول… الطريق السريع إلى فقدان السيادة
برنامج “الطروحات الحكومية” الذي تروج له الوزيرة باعتباره إصلاحاً اقتصادياً، هو في حقيقته مشروع بيع منظم للدولة، فقد شمل بيع حصص في شركات البترول والكهرباء والموانئ والاتصالات، بل وحتى أراضٍ تابعة لهيئات سيادية.
هذه الصفقات لا تعني تنمية أو شراكة حقيقية، بل تسييل أصول استراتيجية لتوفير دولارات مؤقتة، والأخطر أن عمليات البيع تتم في غياب الشفافية، حيث لا تُعلن القيم الحقيقية للعقود، ولا أسماء الشركاء، ولا الجهات المستفيدة من العمولات.
إنها سياسة إدارة مالية قصيرة النظر تحوّل الاقتصاد من مالكٍ لثرواته إلى مستأجرٍ في بلاده.

 

حكومة بلا إنتاج… شعب يدفع الفاتورة
بينما تتحدث الوزيرة عن “الإصلاح الهيكلي”، يعيش الاقتصاد المصري انكماشاً إنتاجياً حاداً، فإن أكثر من نصف إيرادات الدولة تأتي من الضرائب والاقتراض، وليس من الصناعة أو التصدير.
القطاع الخاص، الذي يُفترض أن يكون عماد النمو، يحصل على أقل من 20% من القروض المحلية، بينما تستحوذ الحكومة على 57% منها لسداد الديون والفوائد.
النتيجة هي اختناق الاستثمار، توقف المصانع الصغيرة، وتدهور فرص العمل، في حين تواصل الحكومة رفع الأسعار والضرائب بحجة “الإصلاح المالي”.
وهكذا، يدفع المواطن الفاتورة مرتين: مرة عندما يُثقل بالدين العام، ومرة أخرى عندما يُجبر على تحمّل عجز الحكومة في الإنتاج.

 

تزييف بالأرقام وهندسة للواقع
تتباهى وزيرة التخطيط بأن نسبة الدين للناتج المحلي لا تتجاوز 85%، لكنها لا تذكر أن هذا “التحسن” ناتج عن تضخيم الناتج الاسمي عبر رفع الأسعار وليس عبر نمو حقيقي.
كما تلجأ الحكومة إلى ما يسمى “الهندسة المالية” لتغطية العجز، مثل إعادة تقييم أصول الدولة واحتسابها كإيراد، أو تحويل القروض إلى استثمارات ظاهرية.
بهذا الخداع المحاسبي، يُخفى الانهيار وراء أرقام منمقة، لتبدو مصر على الورق “متماسكة”، بينما الواقع يقول إنها تعيش على الأكسجين الخارجي.

 

بين الخطاب الرسمي والحقيقة المرة
وزيرة التخطيط تتحدث بثقة عن “ثقة المؤسسات الدولية”، لكنها تتجاهل أن هذه الثقة تُبنى على قدرة الدولة على الاقتراض والسداد لا على قدرتها على الإنتاج.
في الحقيقة، تُدار السياسة المالية بمنطق التجميل السياسي لا التنمية، حيث تُقدّم التقارير الملمعة للقيادة، وتُخفي الحقائق عن الرأي العام.

أما المواطن الذي يُطالَب بالصبر والتقشف، فيرى أمامه دولة تبيع كل ما تبقى، من الموانئ إلى المصانع، وتسمّي ذلك “إصلاحاً”.
وفي ضوء ما سبق يعتبر تصريحات وزيرة التخطيط عن “الديون الآمنة” لا تُطمئن أحداً، بل تفضح عقلية الحكومة التي تحوّل الكارثة إلى إنجاز.

فالدَّين يتفاقم، والأصول تُباع، والاحتياطي يُستهلك، بينما تُصدر الوزيرة بيانات النجاح وكأنها تدير اقتصاداً في ازدهار.

الحقيقة أن مصر تُدار بعقلية المسكنات المالية: قروض اليوم لتسديد قروض الأمس، وبيع أصول اليوم لشراء الوقت حتى الغد.
لكن الغد قادم، ومعه الحقيقة: لا اقتصاد ينهض على الدَّين، ولا وطن ينجو إذا باعت حكومته ما تبقى من جسده لتسديد فواتير فشلها.