بعد ثلاثة أشهر ومع دخول الشهر الرابع على بطولة نادرة هزّت الرأي العام المصري، ما زالت جريمة الإخفاء القسري تطارد مصير الشابين البطلين محسن محمد مصطفى (27 عامًا) وأحمد شريف أحمد عبد الوهاب (23 عامًا)، اللذين اختفيا قسرًا منذ 25 يوليو الماضي عقب بث مباشر جريء من داخل مقر جهاز الأمن الوطني في المعصرة – جنوب القاهرة.

بثٌّ لم يتجاوز دقائق، لكنه كشف عن وجه من وجوه القمع المسكوت عنها داخل أحد أكثر المقرات الأمنية سوء السمعة في مصر، حيث وثّقت منظمات حقوقية شهادات عن التعذيب والاغتصاب والإخفاء القسري لعشرات المعتقلين على مدى سنوات.

منذ ذلك اليوم، لم تتلقَّ أسرتا الشابين أي اتصال أو إشارة عن مكانهما أو وضعهما القانوني، فيما ترفض السلطات الاعتراف باحتجازهما أو السماح لمحاميهما بالاطلاع على مصيرهما. وهكذا تحوّلت القضية من “احتجاج رمزي” إلى اختبار جديد لضمير الدولة وعدالتها.

 

خلفية الاعتقال: من بث مباشر إلى اختفاء تام

في 25 يوليو، تداولت منصات التواصل بثًا مباشرًا صادمًا من داخل مقر الأمن الوطني بالمعصرة، ظهر فيه محسن وأحمد وهما يعلنان أن عدداً من ضباط وأفراد الجهاز محتجزون داخل إحدى الزنازين “السرّية” التي تُستخدم، بحسب قولهما، لاحتجاز المختفين قسرًا.

البث، الذي دعا إلى فتح معبر رفح ورفع الحصار عن الشعب الفلسطيني، اعتُبر تحديًا مباشرًا لجهاز الأمن الوطني، إذ أظهر وجودهما داخل منشأة سيادية حساسة.

لم تمرّ ساعات حتى أُغلق البث، وتوقّفت كل الإشارات عنهما. ومنذ ذلك اليوم، لم يُشاهد أيٌّ منهما في أي قسم أو سجن أو نيابة، ما يؤكد وفق عائلاتهما أنهما أُخفيا قسرًا على أيدي عناصر الأمن الوطني.

 

مقر المعصرة.. “القلعة السوداء” للتعذيب والإخفاء

يقع مقر الأمن الوطني بالمعصرة على أطراف القاهرة، في منطقة صناعية مغلقة يُحظر الاقتراب منها، وتعتبره المنظمات الحقوقية واحدًا من أسوأ مقرات الأمن الوطني في مصر. عشرات التقارير الحقوقية وثّقت فيه حالات تعذيب واعتداءات جنسية وانتزاع اعترافات قسرية.

بعض المعتقلين السابقين وصفوه بـ“الثقب الأسود” الذي يدخل إليه المواطن ثم يُمحى من الوجود، فلا زيارة ولا اتصال ولا قيد رسمي في النيابات.

في هذا المكان تحديدًا يُعتقد أن محسن وأحمد احتُجزا بعد بثّهما المباشر. ورغم البلاغات العديدة التي قدّمتها أسرتهما للنائب العام والمجلس القومي لحقوق الإنسان، فإن السلطات تنكر وجودهما تمامًا، وهو النمط ذاته الذي طال مئات المختفين قسرًا خلال العقد الأخير.

 

البث الذي فضح المستور

ما فعله الشابان لم يكن عملاً تخريبيًا ولا مسلحًا، بل صرخة احتجاج سلمية انطلقت تضامنًا مع الفلسطينيين ومع سكان غزة المحاصَرة. لكنّ اختراق جدار الصمت داخل أحد مراكز الأمن الوطني كشف هشاشة الصورة التي تسعى الدولة لتسويقها عن “الاستقرار والسيطرة”.

كان هدفهما – كما قالا خلال البث – تسليط الضوء على معاناة المختفين داخل الزنازين السرّية، وإيصال رسالة إنسانية تطالب بفتح معبر رفح، غير أن الرد جاء على شكل اختفاء مضاعف: اختفاءهما هما هذه المرة، عقابًا على كشف المستور.

 

جريمة مزدوجة: إخفاء وتعتيم إعلامي

منذ اختفائهما، لم تنشر الصحف الرسمية كلمة واحدة عن القضية، فيما اكتفت بعض المواقع المستقلة بالإشارة إلى بيانات حقوقية صادرة عن منظمات مصرية في الخارج. هذا التعتيم الإعلامي المتعمّد يهدف إلى دفن القصة داخل الجدران نفسها التي دفنت فيها أجسادهما.

المنظمات الحقوقية الدولية، وعلى رأسها “المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا”، طالبت بالكشف عن مصير الشابين فورًا، معتبرةً أن استمرار إخفائهما “يمثّل جريمة ضد الإنسانية بموجب القانون الدولي”.

 

مأساة الأسرتين.. انتظار بلا نهاية

والدا محسن وأحمد يعيشان مأساة يومية؛ طرقوا أبواب النيابات، وأرسلوا مذكرات استغاثة لكل الجهات الرسمية، لكنّ الإجابة واحدة: “لا وجود لهما في أي سجن.” كل ما لديهم الآن صور قديمة ورسائل هاتفية من آخر يوم، وأملٌ ضئيل أن يسمع أحد أنينهما خلف جدران المقر الرهيب في المعصرة.
المحامون بدورهم مُنعوا من تقديم توكيلات رسمية أو حضور أي تحقيقات، ما يجعل القضية خارج كل مظلة قانونية ويعني أن مصير الشابين مرهون بإرادة الأجهزة الأمنية وحدها.

 

الخلاصة: سياسة الإفلات من العقاب

قضية محسن مصطفى وأحمد شريف ليست حادثة استثنائية، بل حلقة جديدة في مسلسل الإخفاء القسري في مصر، حيث يُستخدم الصمت والتعتيم كأدوات لإدارة الخوف.
ورغم مرور أكثر من ثلاثة أشهر، لا يزال الملف بلا إجابة: لا جهة تعترف، ولا دليل حياة، ولا عدالة تلوح في الأفق.
في بلدٍ يتحدث مسؤولوه عن “الجمهورية الجديدة”، ما زالت هناك “جمهورية تحت الأرض” يُختطف فيها المواطن لمجرد أنه تحدث أو بثّ رأيًا.
والسؤال الذي يفرض نفسه: كم من “محسن” و“أحمد” سيُختفون قبل أن يتوقف هذا الجرح المفتوح في وجه الإنسانية؟