شهد المغرب في الأسابيع الأخيرة تداخلاً لافتًا بين السياسة والرياضة والإعلام والخطاب الرسمي؛ تداخلٌ انتهى إلى تراجع زخم احتجاجات “جيل Z 212” التي خرجت مطالبةً بتحسين التعليم العام والخدمات الصحية. هذا التراجع لم يأتِ مصادفة، بل جاء عبر مزيج محسوب من الإنجازات الرياضية عالية الرمزية، وجدولة أحداث كبرى، ورسائل ملكية تعد بالإصلاح الاجتماعي، بالتوازي مع قبضة قضائية وأمنية شدّدت الملاحقات على النشطاء. النتيجة: تحوّل جدول الأعمال الوطني من “احتجاج وحقوق” إلى “نشوة إنجازات” و“انتظار إصلاحات”، مع ارتفاع كلفة المشاركة في الشارع.

 

تأثير فوز المغرب بكأس العالم للشباب

شكّل فوز المغرب بـ“كأس العالم للشباب” نقطة انعطاف في المزاج العام. فوزٌ بهذا الحجم يولّد عادةً أثر الالتفاف حول العلم؛ إذ تُعاد صياغة المشاعر الجمعية من الغضب والسخط إلى الفخر والاحتفاء. هنا لعبت السلطة على اقتصاد الانتباه: الضجيج الاحتفالي، الاستقبال الشعبي، وتغطية إعلامية كثيفة تباهي بـ“الجيل الجديد” ولكن في ملاعب الكرة لا في الشارع. بالنسبة لشريحة واسعة من الشباب، تحوّلت طاقة الغضب إلى هوية فائزة، وأُعيد تأطير قصة “جيل Z” من حركة احتجاج إلى “خزان مواهب” في مشروع وطني رياضي صاعد.

 

الإنجازات الرياضية وإقامة كأس إفريقيا بعد أقل من شهرين

لم تترك الدولة فرصة لالتقاط الأنفاس: بعد الإنجاز العالمي، جاء الإعلان عن إقامة كأس إفريقيا بعد أقل من شهرين. هذا التتابع الزمني ليس بريئًا؛ إنه تكديس متعمد للرموز الإيجابية في رزنامة قصيرة لرفع السقف المعنوي وتعويم الخطاب الرسمي. تحت لافتة “الاستعدادات” و“الصورة الدولية”، تُعاد أولويات النقاش العام: بدلاً من سؤال “لماذا يتردّى التعليم والصحة؟” يصبح السؤال “كيف نُنجح الحدث القاري؟”. ومع كل مباراة وتجهيز واحتفال، يتسع الفارق بين خطاب الشارع وفضاء الشاشات، فتذوب حرارة الاحتجاج في سردية الاستضافة والجاهزية.

 

خطاب الملك الأخير بالإصلاحات

في هذا المناخ، جاء خطاب الملك ليعزّز معادلة “الفوز الآن والإصلاح قريبًا”. الخطاب قدّم وعدًا سريعًا بتسريع الإصلاحات الاجتماعية، مُعيدًا تموضع الدولة كفاعل “يستمع ويتدخّل” لا كخصم. هذه الصياغة تمنح المترددين في الشارع جسر خروج مشرّف: بإمكانهم القول إن الرسالة وصلت وإن الكرة باتت في ملعب المؤسسات. سياسيًا، الخطاب يؤسس لـتكتيك العصا والجزرة: جرعة أمل اجتماعي تخفّض كلفة الانسحاب من الشارع، بالتوازي مع رسائل أمنية غير معلنة ترفع كلفة الاستمرار فيه.
خرجت التظاهرات بوتيرة شبه يومية.. ثم تراجع الحشد بعد خطاب 10 أكتوبر

على الأرض، خرجت التظاهرات بوتيرة شبه يومية لمدة أسبوعين، لكن سرعان ما بدأت تحشد أعدادًا أقل من الشباب، خصوصًا بعد خطاب 10 أكتوبر الذي طالب فيه الملك بتسريع الإصلاحات الاجتماعية. هنا ظهرت ديناميكية التهدئة الانتقائية: جزء من الشباب اختار الترقّب ومنح الوقت، وجزءٌ آخر خشي التصعيد مع اقتراب المواعيد الرياضية الكبرى، فيما ساهم الإعلام في تدوير سردية “الإنجاز أولًا” وإظهار التظاهر كفعل خارج المزاج الوطني العام. هكذا تراجع الزخم من دون صدامات كبرى، عبر مزيج من التنفيس الرمزي ووعود السياسات.

 

الملاحقات القضائية: أكثر من 1500 مغربي قيد المتابعة وألف موقوف

لكنّ معادلة الإخماد لم تقف عند هندسة الرموز؛ فقد طُبّقت سياسة الردع القانوني على نطاق واسع. تفيد المعطيات بأن أكثر من 1500 مغربي يلاحقون قضائيًا على خلفية احتجاجات “جيل Z 212”، من بينهم ألف موقوف.

هذا الرقم، بحد ذاته، يبعث برسالة واضحة: المجال العمومي مُراقَب، وكلفة التنظيم مرتفعة، ومساحة الخطأ ضيقة. عمليًا، ينتج عن ذلك أثر ردعي يضيّق هوامش التعبئة، ويقنع كثرًا بأن الانتظار أقل مخاطرة من المواجهة في مرحلة عنوانها الرسمي “الاستحقاقات الرياضية والإصلاحات الاجتماعية”.

 

أحكام ثقيلة في أغادير وأحكام إضافية في محاكم أخرى

على مستوى التقاضي، أصدرت محكمة في أغادير (جنوب) أحكامًا على 240 من الموقوفين، 39 منهم بالسجن لمدد تراوح بين ست و15 سنة، وفق معطيات حقوقية، فيما حكمت محاكم أخرى على مئاتٍ غيرهم بالسجن لمدد بين ثلاثة أشهر وسنة.

هذه الأحكام الثقيلة تعيد تعريف المخاطر الفردية للمشاركة في الاحتجاج، وتحوّل النشاط المدني من فعل جماعي واسع إلى مقامرة شخصية عالية الكلفة. بالتوازي، تُبقي السلطة خطاب الإصلاح مفتوحًا، فتظهر بمظهر “من يسمع ويصلح” بينما تُحكِم قبضة الردع في الخلفية.

الخلاصة أنه بمكر سياسي وصرامة أمنية، نجح القصر في إعادة توجيه موجة جيل Z: رفْعٌ للسقف الرمزي عبر فوز عالمي واستضافة قارية واحتفال مستمر، يترافق مع وعدٍ ملكيّ بتسريع الإصلاحات، ومع هندسة قضائية ترفع كلفة الاستمرار في الشارع.

هكذا، تحوّل سؤال الشباب من “كيف نغيّر الآن؟” إلى “ماذا ستفعل الإصلاحات غدًا؟”، فيما حُوِّل الزمن نفسه إلى أداة حكم: وقتٌ للإنجازات، ووقتٌ للانتظار، ووقتٌ للأحكام.

وفي المحصلة، أفلتت الدولة من موجة احتجاج كانت واعدة التنظيم، لكنها اصطدمت بحائطٍ مركّب من الرياضة والسياسة والقانون… حائطٍ يعرف كيف يمتص الغضب ويؤجّل الحساب.