تعتبر حادثة استبعاد المهندس هيثم الحريري من الترشح لانتخابات مجلس النواب 2025، بذريعة "الاستثناء من الخدمة العسكرية"، ليست واقعة قانونية بريئة كما تحاول الحكومة تصويرها، بل حلقة جديدة في سلسلة طويلة من تسييس القانون وتوظيفه لإقصاء الأصوات المستقلة. القضية تكشف عن الوجه الحقيقي لمنظومة تدّعي الإصلاح والانفتاح، بينما تمارس في الواقع إغلاقًا محكمًا للمجال العام، وتجعل من كل استحقاق انتخابي مشهدًا شكليًا لإعادة تدوير الولاءات.

 

استثناء قانوني تحوّل إلى سلاح سياسي

 

تقدّم الحريري، النائب السابق عن دائرة محرم بك ومينا البصل، بأوراق ترشحه كاملة، واستلم رمز "الراديو" رسميًا، قبل أن يتفاجأ باستبعاده من القوائم الأولية بحجة أنه "مستثنى من الخدمة العسكرية".

 

الحريري حصل على شهادة إعفاء رسمية صادرة من وزير الدفاع المشير طنطاوي عام 1999، ما يعني أن استثناؤه لم يكن قرارًا ذاتيًا، بل إجراء سيادي من المؤسسة العسكرية ذاتها.

 

لكن اللجنة الانتخابية قررت تفسير هذا الاستثناء بوصفه "عدم أداء"، متجاهلة نص المادة (6) من قانون الخدمة العسكرية التي تعتبر المستثنى في حكم المعفى.

 

هكذا تحوّل القانون من ضمانٍ للحقوق إلى أداة انتقائية للحرمان منها، في سابقة تفتح الباب أمام أي سلطة لتكييف النصوص وفقًا لأهوائها السياسية.

 

دولة تُضيّق على من يتنفس

 

القضية لا تتعلق بشخص الحريري فقط، بل تكشف عن منهج شامل في التعامل مع المجال السياسي.

 

في الأسابيع الماضية، تم استبعاد عدد من المرشحين المعارضين أو المستقلين لأسباب متشابهة: "تحليل مخدرات"، "نقص أوراق"، أو "عدم صلاحية الموقف العسكري".

 

ما يجمع بين هذه الوقائع ليس القانون، بل النية السياسية في تنقية السباق الانتخابي من أي صوت مختلف.

 

النظام الذي وعد بـ"انفتاح سياسي" بعد دعوة الحوار الوطني، عاد ليغلق الباب أمام رموز المعارضة، حتى الإصلاحية منها.

 

النتيجة: برلمان بلا صوت، وشعب بلا ممثلين، وديمقراطية بلا مضمون.

 

ازدواجية الخطاب.. وموت السياسة

 

بينما تروّج الحكومة في إعلامها لخطاب “توسيع المشاركة” و“الفرص المتكافئة”، تمارس على الأرض نقيض ما تعلنه.

 

فأي انفتاح يُمكن أن يُصدَّق بينما تُقصى شخصيات خاضت الانتخابات من قبل، وشاركت في العمل النيابي تحت نفس النظام؟

 

السلطة التي تخشى نائبًا واحدًا يحمل فكرًا مستقلاً، تعترف ضمنيًا بأنها تعاني من هشاشة سياسية غير مسبوقة.

 

عندما تتحوّل الدولة إلى كيان لا يحتمل رأيًا ناقدًا، ولا يرى في المعارضة سوى تهديد للأمن، تصبح أمام مأزق وجودي: دولة بلا توازن ولا حيوية، تحكمها أجهزة لا مؤسسات.

 

برلمان للبيع.. وسياسة بالتقسيط

 

خلف الكواليس، تهمس الأحاديث بأن مقاعد البرلمان تُمنح بمقابل مالي قد يتجاوز 70 مليون جنيه للكرسي الواحد.

 

وفي الوقت الذي يُقصى فيه المستقلون، يُفتح الباب أمام رجال الأعمال وأصحاب الولاء الأمني ليحصلوا على الشرعية الشكلية.

 

هكذا يتكوّن برلمان لا يشرّع ولا يراقب، بل يُوزّع المنافع ويتقاسم الغنائم، بينما تُقصى الكفاءات التي تمثل هموم الشارع الحقيقية.

 

فهل هي انتخابات أم مزاد سياسي مغلق لا يُسمح فيه إلا لمن يملك الثمن والولاء؟

 

ديمقراطية بلا مضمون.. ونظام بلا ثقة

 

استبعاد الحريري وغيره من المرشحين ليس مجرد إجراء انتخابي، بل مؤشر على أزمة أعمق داخل بنية الحكم:

 

أزمة ثقة، وأزمة شرعية، وأزمة رؤية.

 

النظام الذي يطالب الشعب بالصبر والمشاركة في أعباء الأزمة الاقتصادية، هو ذاته الذي يحرمهم من المشاركة في القرار السياسي.

 

وبينما يختبئ خلف شعارات “الإصلاح”، تتسع الهوة بين السلطة والمجتمع، لتتحوّل الدولة إلى جزيرة مغلقة تحكمها أقلية معزولة عن الواقع.

 

وفي النهاية فقضية هيثم الحريري ليست استثناءً، بل دليل على أن الحكومة المصرية فقدت القدرة على التمييز بين الدولة والسلطة.

 

حين يُستخدم القانون لإقصاء الخصوم بدل حماية الحقوق، تتحوّل العدالة إلى أداة قمع، وتتحول الانتخابات إلى مشهد تجميلي بلا مضمون.

 

إنها لحظة كاشفة: النظام لم يعد يخشى المعارضة، بل يخشى نفسه، يخاف أن يرى في المرآة صورة بلد كان يمكن أن يكون أفضل، لو احترم أصوات أبنائه بدل أن يقمعهم.