د/ عادل فهمي

تعودت معك عزيز القارئ أن أكون منجيا وموضوعيا وواقعيا، وهذه القيم العليا للحوار الهادف. ومهما كان موقفنا من الرئيس مرسي تأييدا ومعارضة، فلا نملك إلا أن نحترم شخصه وموقفه وفكره وإدارته.

ولو تذكرنا بداية رجب طيب أردوغان لوجدنا أنه اهتم في البداية بأمرين هما:

- تصفير مشكلات تركيا مع الدول الأخرى. بمعنى إزالة العوائق في العلاقات الخارجية مهما كانت، وبداية عهد جديد من التعاون والتفاهم.
-رفع معدلات دخل الفرد.

والمحللون يقدرون لأردوغان أمرين هامين هما: سيره نحو تحويل النظام التركي من العسكرة إلى المدنية خلال تسع سنوات تقريبا. وكذلك ارتفاع معدل النمو وزيادة دخل الفرد مما انعكس إيجابا على قوة تركيا الداخلية وفاعلية دورها الخارجي.

دعونا نحلل الأيام الأولى من حكم د. مرسي ماذا فعل على المحورين ؟

أولا: خوض د. مرسي معركة غير متكافئة مع نظام قديم متجذر في بنية الدولة المصرية عسكريا وأمنيا واقتصاديا واجتماعيا وأخلاقيا. واستطاع بقوة الدفع الشعبية أن ينتصر على كل حشود النظام السابق فأصبح أول رئيس مدني لمصر منتخب بنسبة تزيد على خصمه باثنين في المائة فقط، ومع ذلك أعلن أنه لا يجب النظر تحت الأقدام أو الالتفات للخلف وهذه لفتة مهمة ومبكرة لتصفير المشكلات مع القوة الرئيسة، حتى أنه طالب بحذف كلمة فلول من التداول الإعلامي..!!

ثانيا: واجه الدكتور مرسي هجوما قضائيا وقانونيا أجبره على تقبل أوضاع قانونية مسيسة وانصاع للقضاء بعد أن أخذ شرعيته من الشعب صاحب السيادة. وذهب بعيدا في تقبل الإعلان الدستوري المكمل رغم رفضه له، فأعطى المؤسسة العسكرية طمأنة وخفف من مخاوفها، حتى جاءت لحظة الانكشاف بعد حادث رفح فأخذ زمام المبادرة واتخذ قراره التاريخي بتنحية المشير وأنصاره وانتزع سلطته المدنية من المجلس العسكري دون إراقة دماء أو بناء خلفيات عدائية مع أحد، فحقق أمرين، خروج غير مهين للعسكريين من السلطة، وتحول واثق وهادئ إلى السلطة المنتخبة في دولة مدنية، فلم ينشئ خلافا ولا صداما مع الجيش وهنا تم تصفير المشكلات مع أكبر قوة في المجتمع قوة الجيش.

ثالثا: برزت قوى مجتمعية مسكونة بالخوف من حكم الإسلاميين وعبرت عن ذلك بكل الطرق تساندها جوقة كبيرة من أصحاب المصالح عبر منصات قصف فضائي مركز دعمته قوى إقليمية، فما كان من د مرسي إلا أن دعا هؤلاء لكلمة جامعة تحت علم مصر، فالتقى وسمع للإعلاميين والمفكرين والسياسيين والفنانين، فاكتسب احترام المؤيد له والمختلف معه، وهنا تم تصفير المشكلات مع القوى الفاعلة السياسية والثقافية والإعلامية، وإن بقيت كثير من القضايا التي تحتاج إلى وقت وجهد للاتفاق حولها.

رابعا: على المستوى العربي: ظلت دول الخليج تترقب صعود د مرسي ممثلا للحكم بمرجعية إسلامية ماذا يفعل ؟ وكان المتوقع أن يدير ظهره للإقليم وأن يعتد بقوته وانتمائه، فإذا به يرتفع إلى مستوى مكان ومكانة دولة محورية بحجم مصر فيعلن وقوفه مع التعاون العربي والإسلامي ويطالب بإحياء اتفاقية الدفاع العربي المشترك، ويطالب بالسوق العربية المشتركة، ويعلن بوضوح أن أمن مصر الاستراتيجي يبدأ من شاطئ الخليج العربي، ومع بقاء جيوب معارضة متصيدة لبعض الهنات في خطاب مرسي، فقد مضى إلى التأكيد على أن مصر لا تصدر الثورة، ولا تتدخل في شأن الدول ولكنها في الوقت نفسه تساند قضايا الشعوب في تقرير مصيرها، واختيار طريقها.

خامسا: على المستوى الإسلامي: أعلن د. مرسي أن أركان الإقليم هي مصر والسعودية وتركيا وإيران، فبدأ بالسعودية وجعلها الدولة الأولى في حركته، أما بالنسبة لإيران فمهما اعترضت بعض دول الخليج، فإن العلاقات الإستراتيجية أكبر من تخوفات البعض وأولى بمعالجتها وليس تركها. ومع تقدم تركيا إلى مصر ومحاولة تقديم النصح والدعم فهي علاقات متكافئة ولن يسمح د مرسي أن تكون مصر تابعة لأحد ولا حاجة لأن تكون مصر فوق أحد، وبالنسبة لإيران تخرص البعض بأن العلاقة ستكون انطاحا أيدلوجيا لإيران، وفي هذا نجح د مرسي في وضع العلاقة مع إيران في حجمها الطبيعي، علاقة مصالح في إطارها الإسلامي الذي لا يعين على ظلم شعب مثل سوريا، ولا يضيع حق دول الخليج في أمنها واستقرارها، ولا يمنع من التحاور مع إيران بلا إقصاء ولا استعلاء من أي دولة. وبعد عقود من التوتر أعاد للعلاقات المصرية الإيرانية طبيعيتها وللعلاقات التركية قوتها. وبهذه الطريقة تم تصفير المشكلات مع السعودية بخصوص ملف المعتقلين السياسيين، ومع إيران ومع تركيا.

سادسا: على المستوى العالمي: لأن الدين يدعو للتآلف وينبذ الصراع الذي لازم الفكر والتاريخ البشري، ويقر التدافع القائم على أساس التنافس في جلب المصالح، ودرء المفاسد. وهذا يوفر للمجتمعات الإنسانية الأمن والاستقرار.

فقد خرج د. مرسي ليعيد لمصر وجهها الحضاري لتتلاقى الحضارات الإنسانية فذهب إلى حضارة الصين ليدعوها إلى تعاون متكافئ، كما أن تعاون مصر مع أوربا وأمريكا وبقية دول العالم قائم لا تعكر صفوه إلى مواريث الماضي حين سادت قيم التعصب، ومشاعر الخوف والكراهية، مما أدى إلى سوء الفهم المتبادل بين الطرفين.

وخطاب د. مرسي للخارج دائما مبدوء بكلمة شهيرة (جئنا برسالة سلام) ولسان حاله يقول: ليس من الحكمة أن تقيّدنا تجارب الماضي  السيئة -التي تحسب فقط  على من قاموا بها- في الوقت الذي يحفل فيه  تاريخ الحضارات بتجارب مشرقة.

ورغم ما يأخذه البعض على خطاب د. مرسي المشبع بالقيم الدينية والأفكار الأخلاقية فإن دعوته للسلام العالمي هدفها التلاقي بين المنتمين للديانات التوحيدية و الأصول التي تجمعنا  بأنصار بقية الثقافات.

إن أمام مصر والعالم  تحديات مشتركة، تمثل أخطاراً محدقة بالعالم كله، تتجاوز حدود الثقافات، والعقائد الدينية، والقوميات. منها ما هو مادي معروف من نفاد الموارد الطبيعية، وسباق التسلح، والحروب العرقية والدينية، ومنها ما يتصل بالتصورات والشعور.

وبعد إقرار زيارات الدكتور مرسي لأوربا وأمريكا نطمع في زيارات لأمريكا اللاتينية نتوقع من دكتور مرسي أن يعلن فيها ومن خلالها مع كل دول العالم أن لدينا فرص حقيقية سانحة، فالتقدم العلمي والتطور التقني، الذي أسهمت فيه ثقافات مختلفة يعد وسيلة  لخدمة الإنسانية. والتأثيرات المتسارعة لمنجزات الثورة العلمية والتقنية، وهذا يغنى الرصيد العقلي للإنسانية جمعاء، ويساعد على تكوين نمط جديد من التفكير، وظهور أساليب وطرق متجددة مبدعة في دراسة الكون وتحدياته العامة من زاوية إنسانية شمولية. كما أن التطور الاتصالي والمعلوماتي  يتيح  للجميع فرصاً  للانتفاع والمشاركة.

مع بداية عهد د مرسي في حكم مصر فإننا أمام مرحلة جديدة للعلاقات الدولية لا يكفتي بتصفير المشكلات بل يتعدى ذلك إلى  علاقات متبادلة وتعاون وتضامن وشراكة سياسية وثقافية واقتصادية، وهذا يتطلب أناس يتحلون بالمسؤولية الأخلاقية المشتركة.

إن في مبادرات د. مرسي للتعاون والتعايش قيمة إنسانية، واتجاها عقلانيا يقوم على معرفة وثيقة بقيم الثقافات المختلفة، ورغبة متبادلة لتعزيز أسس التعايش والتفاهم والتعاون على الخير ونبذ العدوان. ونأمل في أن يكون لدينا أجيال تتسم بالاتجاه العقلي، والإيجابية والالتزام، والتوجه المستمر نحو الكمال، و الاتزان و الإحساس الإنساني.

وأنا على يقين من أن هذه التوجهات للدكتور مرسي سوف تسعى إلى إعادة إذكاء الشعور الأخلاقي لأنصار الثقافات المختلفة، وتقوية القيم الإنسانية بما يمهد لقيام نظام عالمي متكافئ، تصان فيه حقوق الشعوب على اختلاف ثقافاتها ومقوماتها الحضارية. وندعوه إلى تبني  مشروع متكامل ومستمر للتعارف الثقافي بين كل الأمم لتعود إلى محضن الحضارة مصر، هذا التلاقي الحضاري يستند إلى إطار أخلاقي مشترك، وأفكار ذات نزعة إنسانية عالمية، ويقوم على قواعد مشتركة، و آليات عمل واقعية،  لتحقيق مصالح مشتركة، ويزيد فرص الثقافات في  معالجة الأزمات الثقافية التي تنشأ.