محمد عوض*

لقاء السيد الرئيس الخميس 23-8 بكريستين لاجارد مديرة صندوق النقد الدولي للتفاهم بين مصر والصندوق حول قرض ب4.8 مليار دولارا أثار جدلا واسعا بين المؤيدين لهذا القرض- وفكرة الاقتراض عموما - وبين المعارضين, ولكل من الفريقين مبرراته بالطبع, فالأول يري أن صندوق النقد الدولي ليس مؤسسة تمويل, وإنما مؤسسة دولية تدعم الثقة في الاقتصاد الوطني, وتشجع المؤسسات الأخرى علي الاستثمار في مصر, وأن شروط الصندوق – علي الأقل في هذا القرض - تعتبر مقبولة مقارنة بشروط الاقتراض الداخلي, حيث تبلغ الفائدة بالنسبة لقرض الصندوق1.1%, مع فترة سماح93 شهرا مقارنة بالاقتراض الداخلي الذي تبلغ فائدته21%, كما أن القرض يستهدف الحد من الاقتراض الحكومي من الجهاز المصرفي, بما يتيح مزيدا من الائتمان للقطاع الخاص. إلي غير ذلك من المبررات.

أما المعارضون فتنوعت أسباب رفضهم, ولعل منها: أن الاقتراض بفائدة مهما قلت هو خروج علي أحكام الشريعة التي أعلن الرئيس الالتزام بها, وآخرون يرون أن المشكلة ليست في الحلال والحرام بل في أن هذه القروض ما هي إلا حل مؤقت وتجميلي لمشاكلنا وليست حلا جذريا.

وكما طرح المعارضون مبررات معارضتهم طرحوا كذلك طرحوا بدائل متعددة, من اتخاذ من إجراءات تقشفية أسوة بمثل اسبانيا واليونان وألمانيا, إلي فتح باب التبرع الذي يمكن أن يؤدي – علي حد تعبير بعضهم – إلي توفير أضعاف المبلغ الذي نطلبه من صندوق النقد الأسود.... الخ.

وإزاء هذا الجدل - المفيد بالطبع في اتخاذ القرار السياسي بأقل قدر ممكن من السلبيات- ربما يكون من المهم جدا استدعاء القاعدة المنطقية البدهية: أن الحكم علي الشيء فرع عن تصوره. ومن هنا فلا بد من الإلمام بشيء ولو ضئيل عن موضوع القروض والجهات المقرضة وأهدافها ودوافعها للإقراض .. الخ حتي تتكون الصورة الذهنية الصحيحة عن الموضوع ومن ثم يصدر الحكم صحيحا موضوعيا أو – علي الأقل - قريبا من الصحة والموضوعية.

الاغتيال الاقتصادي للأمم

وخير مصدر يساعد علي معرفتنا بالموضوع هو: كتاب (الاغتيال الاقتصادي للأمم .. اعترافات قرصان اقتصاد لجون بيركنز ترجمة ومراجعة: مصطفي الطناني, د عاطف معتمد, وتقديم: د شريف دولاور, طبعته الهيئة المصرية العامة للكتاب 2012م في 276 صفحة مكتبة الأسرة سلسلة إنسانيات)
هذا الكتاب حين صدر في نسخته الإنجليزية وصفته نيويورك تايمز بالكتاب الأكثر مبيعا، وتسابقت دور النشر العالمية على ترجمته إلى لغاتها، وكان من بين أهم هذه اللغات الفرنسية والألمانية والروسية.

مؤلف الكتاب جون بيركنز، وهو خبير اقتصادي دولي ولد بالولايات المتحدة 1945. حصل علي البكالوريوس في كلية إدارة الأعمال بجامعة بوسطن 1968.تطوع في فيالق السلام بالإكوادور في الفترة من 1968 – 1970. حصل علي وظيفة رجل اقتصادي في شركة استشارات دولية ( 1971 – 1980 ). تعرف من خلالها علي العالم السري للمؤسسات المالية الدولية وكيفية استغلالها للدول الفقيرة. جاءت اعترافات جون بيركنز في كتابه، لتلقي الضوء على ممارسات نخبة رجال الأعمال والسياسة في الولايات المتحدة لبناء إمبراطورية عالمية تسيطر عليها "الكوربورقراطية أي حكم منظومة الشركات الكبري الأمريكية.

إقراض وتعجيز عن السداد
يحدد المؤلف دوره في استخدام المنظمات المالية الدولية لخلق ظروف- لاحظ عبارة خلق ظروف - تؤدي إلى خضوع الدول النامية لهيمنة النخبة الأميركية التي تدير الحكومة والشركات والبنوك. فالخبير يقوم بإعداد الدراسات التي بناء عليها توافق المنظمات المالية على تقديم قروض للدول النامية المستهدفة بغرض تطوير البنية الأساسية وبناء محطات توليد الكهرباء والطرق والموانئ والمطارات والمدن الصناعية، بشرط قيام المكاتب الهندسية وشركات المقاولات الأميركية بتنفيذ هذه المشروعات.

وفي حقيقة الأمر فإن الأموال بهذه الطريقة لا تغادر الولايات المتحدة حيث تتحول ببساطة من حسابات بنوك واشنطن إلى حسابات شركات في نيويورك أو هيوستن أو سان فرانسيسكو، ورغم أن هذه الأموال تعود بشكل فوري إلى أعضاء في "الكوربورقراطية" فإنه يبقى على الدولة المتلقية سداد أصل القرض والفوائد.

أما المثير في اعترافات المؤلف فهو تأكيده بأن مقياس نجاح الخبير يتناسب طرديا مع حجم القرض بحيث يجبر المدين على التعثر بعد بضع سنوات! وعندئذ تفرض شروط الدائن التي تتنوع مثل الموافقة على تصويت ما في الأمم المتحدة أو السيطرة على موارد معينة في البلد المدين أو قبول إقامة قاعدة عسكرية على أراضيه

يقول جون: أخبرتني كلودين – المرأة التي كلفت بتدريبه -: أن هناك هدفين أساسيين لعملي,

الأول: اختلاق مبررات للقروض الدولية التي ستعيد ضخ المال إلي مين- الشركة التي عين بها قرصان اقتصاد لتسع سنوات- وشركات أمريكية أخري من خلال مشروعات هندسية وإنشائية ضخمة. (ربما يكون ضخ إيطاليا 200 مليون دولار في مشروعات تنفذ على أرض مصر في إطار برنامج مبادلة الديون خطوة في هذا السياق).

الثاني: العمل علي إفلاس تلك البلاد التي أخذت تلك القروض ( بعد أن تكون قد سددت ديونها لشركة مين طبعا ولسائر المتعاقدين الأمريكيين طبعا)بحيث تبقي هذه البلاد مدينة لمدينيها إلي الأبد وتصبح أهدافها سهلة عندما تدعو الحاجة إلي خدمات تشمل إنشاء قواعد عسكرية أو تصويت في الأمم المتحدة, أو اتخاذها منفذا إلي البترول والموارد الطبيعية الأخرى.
وفي هذا المقام يكشف المؤلف عن الجانب غير المرئي في خطة القروض والمشروعات، وهي تكوين مجموعة من العائلات الثرية ذات نفوذ اقتصادي وسياسي داخل الدولة المدينة تشكل امتدادا للنخبة الأميركية ليس بصفة التآمر، ولكن من خلال اعتناق نفس أفكار ومبادئ وأهداف النخبة الأميركية، وبحيث ترتبط سعادة ورفاهية الأثرياء الجدد بالتبعية طويلة المدى للولايات المتحدة

نموذج حي: الإكوادور
يعترف المؤلف أنه وزملاءه توصلوا إلى دفع الإكوادور نحو الإفلاس، ففي ثلاثة عقود ارتفع حد الفقر من 50% إلى 70% من السكان، وازدادت نسبة البطالة من 15% إلى 70%، وارتفع الدين العام من 240 مليون دولار إلى 16 مليار دولار، وتخصص الإكوادور اليوم قرابة 50% من ميزانيتها لسداد الديون
لم يكن أمام الإكوادور لشراء ديونها سوى بيع غاباتها إلى شركات البترول الأميركية حيث يكشف المؤلف أن هذا الهدف كان السبب الرئيسي في التركيز على الإكوادور وإغراقها بالديون نظراً لكون مخزون غابات الأمازون من النفط يحتوي على احتياطي منافس لنفط الشرق الأوسط. واليوم فإن لكل مائة دولار من خام النفط يستخرج من غابات الإكوادور تحصل الشركات الأمريكية علي 75 دولار منها مقابل 25 دولار للإكوادور تذهب 75 بالمائة منها لسداد الديون الخارجية والمصروفات الحكومية والدفاع, ويتبقي 2.5 دولار فقط للصحة والتعليم والبرامج الأخرى التي تستهدف دعم الفقراء.

الشبكة الجهنمية
من الأمور اللافتة في الكتاب تأكيد المؤلف علي قضية التشابك الأخطبوطي بين الإدارة الأمريكية والشركات العملاقة والبنوك التي تسعي لبناء إمبراطورية عالمية. والأمثلة علي هذا التشابك عديدة: من برنامج الغذاء للسلام والذي حدد السيناتور ( هيوبرت هامفري ) في ذلك الوقت أهدافه بدعم الشركات الزراعية الأميركية من جهة وترسيخ اعتماد الآخرين علي الغذاء الأمريكي من جهة أخري, ومرورا بخطط (ريجان) لإنقاذ شركة كرايسلر للسيارات وبنك كونتننتنال اللينوي وتعويض المؤسسات المالية التي تضررت من فضيحة توظيف الأموال في أواخر الثمانينات ..

ومن الأمور الخطيرة التي اعترف بها المؤلف – أيضا – الثلاثية البغيضة التي تستخدم لاغتيال الأمم الضعيفة والتي تتمثل في: القرصنة الاقتصادية ثم تدخل ثعالب المخابرات الأمريكية في حالة فشل القرصنة ثم تدخل الجيش الأمريكي في حالة إخفاق ثعالب المخابرات علي حد تعبيره. ومثل لذلك برئيسن لدولتين في أمريكا اللاتينية, هما خايمي رولدوس رئيس الإكوادور, وعمر توريخوس رئيس بنما والذين لقيا حتفهما في حادثين مروعين وكانا مدبرين فقد اغتيلا – بحسب الكاتب – بسبب معارضتهما لتلك الشبكة الجهنمية, وعندما فشلنا نحن قراصنة الاقتصاد في استمالة رولدوس وتوريخوس تدخل فريق آخر من القراصنة وهم ثعالب المخابرات الأمريكية.

هذه أبرز ملامح الكتاب الذي أظن أنه يساعد المثقف العادي علي الأقل علي فهم فكرة القروض ومن ثم إصدار حكمه عليها, والله المستعان.
__________
*باحث في الدراسات الإسلامية