م/ محمد كمال

تعالوا في جولة أدبية نعايش فيها أجواء رواية وفيلم "اللجوء إلى المنهج"، والتي تشرح شخصية الديكتاتور العسكري في "أمريكا اللاتينية" كتعبيرٍ عن نظم الحكم العسكرية، ومؤلفها هو الروائي الكوبي الشهير "أريخو كارينتيه" وكتبها عام 1975م، ويكشف التحليل الذي تقدمه الرواية شخصية هذا النمط من الحكام ونظم حكمهم، وعلاقتهم بالإمبريالية العالمية، كما يكشف عن النضال الشعبي الذي لا يهدأ ضد هؤلاء الحكام.

ويبدأ الفيلم والرواية في بيت "الرئيس" بباريس! ويظهر في صحبته عاهرة ترتدي زي الراهبات!.. حسب طلبه.... ليبدأ الإيحاء بمدى الارتباك العقلي لهذا النوع من البشر حين يصبح حاكمًا.

ويستقبل "الرئيس" مثقفًا فرنسيًّا أكاديميًّا ليمنحه شيكًا بمبلغ سخي نظير خدماته الفكرية في تبرير أفعاله والترويج له في الصحافة الفرنسية!.

وأثناء اللقاء يأتي "بيرالف" سكرتير الرئيس، ويخبره بتمرد الجنرال "كالفان" قائد الجيش في بلاده، فيصدر الرئيس ثلاثة أوامر..

أولاً: أبلغ ابني السفير في "واشنطون". وأصدر أمرًا بإهدار دم كل المتمردين.

ثانيًا: أعد لي خطابًا ألقيه على الأمة.

ثالثًا: وقل لابنتي "أوفيليا" لا تقلقي فلدينا مال كثير في سويسرا.

ويسافر "الرئيس" إلى بلاده بالباخرة ثم يذهب بالقطار ليقود المعركة ضد المتمردين! مرتديًا كامل زيه ونياشينه البراقة، وينجح "الرئيس" بتصفية التمرد بمساعدة "الجنرال هوفمان" ويصدر أوامره بإعدام الجنرال "كالفان"، ثم يباغتنا "الرئيس" بقرار دموي يعدم بموجبه أسرى!! المعركة من أبناء جيشه.

وما أن تشيع أخبار الصدام العسكري بين القائد المستبد والجنرال الثائر، ويرى الناس قسوة الرئيس ودمويته. حينئذ يثور الشعب في مظاهرات تلقائية معادية للحكم العسكري، ويقود طلبة الجامعة الثورة بدعم من أساتذتهم ومن رئيس الجامعة شخصيًّا.

المفاجأة تتجسد في ظهور "السفير الأمريكي" الذي يطلب من الرئيس إنهاء حالة "الشغب"!, وهنا يتحرك الرئيس باندفاع صاخب ليرسم أشد المشاهد قسوةً مجسدًا مذبحة "نويفاكوردويا" الشهيرة بأمريكا اللاتينية حيث قام رجال الرئيس بقتل الرجال واغتصاب النساء بوحشية لا مثيل لها، مطمئنًا إلى حماية ظهره "أمريكيًّا" وتبرير أفعاله "فرنسيًّا". فهذه هي عوامل توطيد ملكه.

رمز آخر يضيء للثورة طريقها. حيث يظهر فنان النحت "ميجيل"، الذي يرى أهالي القرية يرفعون أعلام الاستسلام البيضاء في مواجهة الجيش، فما كان منه إلا أن صرخ صرخة المقاومة والكفاح وأمرهم برفع أعلام المقاومة الحمراء فرفعوها. ويصطدم الاثنان؛ الجيش والشعب..!! فتكون المذبحة. حينئذٍ نرى الفنان "ميجيل" وهو يقول: "سوف نعود"، ثم يلفظ أنفاسه الأخيرة، وتسبح القرية في بحار الدم وجثث القتلى؛ الليل لم ينجل بعد.

في باريس مرةً أخرى يأتي خبر تمرد جنرال آخر وهو "الجنرال هوفمان" هذه المرة (وهو الذي ساعد "الرئيس" في إخماد الثورة التي قادها الجنرال "كالفان") وتتكرر المأساة الجنونية، ويدك الرئيس التمرد بنفس البشاعة والقسوة.

لغة واحدة يعرفها العسكر؛ هذا يتمرد وهذا يسحق. والشعب يدفع الثمن.

وفي مشهد رائع مملوء بالإيحاء نرى الرئيس في موكبه يتطلع إلى الجماهير ويقول لسكرتيره:

بيرالف"!.. انظر كم يحبونني يا "بيرالف"!!

فيرد السكرتير: نعم يا سيدي. ولكن لا تنظر من النافذة كثيرًا!

هل يذكرنا هذا بشيء؟!

بعد تصفية تمرد الجنرال "هوفمان" تصادر الحكومة كل الكتب الحمراء، وحتى رواية "الأحمر والأسود" تصادرها!! حتى لا يتذكر الشعب رايات المقاومة الحمراء.

تتصاعد من جديد الثورة الشعبية بقيادة الجامعة ورئيسها، ويستدعي الرئيس "قائد الطلبة" ويناقشه طويلاً، ثم يقترح عليه: لماذا لا تذهب إلى باريس "مدينة النور" لاستكمال دراستك؟!

ولكن الطالب يرفض بإصرار ليؤكد أن النبتة الطاهرة ستظل أمل الأوطان.

وفي لحظة عبقرية يبدأ الشعب في (إضراب عام) ولا يجد الرئيس من حيلة لإنهاء الإضراب غير إعلان موته كذبًا، فيخرج الشعب للاحتفال بنهاية "الدكتاتور"، وحينها يأمر بإطلاق النار على الجميع، فيتلقي الناس الرصاص بصدورهم العارية، وتزداد الثورة اشتعالاً، فيأمره "السفير الأمريكي" بالهرب! ويولي رئيس الجامعة مكانه!

وفي باريس يموت الرئيس ولا يخرج في جنازته إلا ثلاثة أفراد ليس من بينهم سكرتيره، "بيرالف", الذي خانه.

وهكذا تبرز لنا الرواية شخوص الواقع حين تحكم الديكتاتوريات العسكرية؛ ففي مقابل القائد الشعبي "الفنان" سيكون هنالك أستاذ الجامعة "الانتهازي"، وستكون هنالك قيادات وطنية عسكرية تؤمن بالحق ولكنها لا تعرف الطريق، ثم تنتهي المواجهة إلى: "الدكتاتور" من ناحية و"طالب الجامعة" رمز الطهر والأمل من ناحية أخرى، وإزاء هذه التناقضات الداخلية تتربص القوى الخارجية الممثلة في "السفير الأمريكي" المتآمر، والإعلام الفرنسي المنحاز ضد الشعوب، وهو يمثل هنا الإعلام الأوروبي كله، ووسط كل هذه التحديات والشهداء والمؤامرات.

هنالك يولد شعب يتخطى المحن والجراح، وينتصر في النهاية.

(المرجع: كتاب "أدباء العالم والسينما" تأليف "سمير فريد").

_________

*[email protected]