عندما تكون إبادة غزة قربانًا للسلام والمصالحة ... السفير د. عبد الله الأشعل
السبت 14 فبراير 2009 12:02 م
14/02/2009
هناك اتجاهان في العالم العربي والخارج في قراءة ما حدث في غزة: الاتجاه الأول العربي والعالمي يرى ضرورة القفز على ما حدث في غزة، أو أن إحراق غزة كان حادثًا جللاً يدل على وحشية الكيان الصهيوني، وهو درس يفيد بأن عدم وجود السلام هو الذي أدَّى إلى إحراق غزة؛ ولذلك فإن مشهد غزة قد استنفد طاقة الشر عند الكيان الصهيوني، بحيث أصبح مستعدًّا بعد ذلك للسلام، وكأن الشهيةَ الصهيونية إلى السلام كانت بحاجةٍ إلى هذه المحرقة حتى تشفيَ غليلها من هذا العرق الذي يطاردها في منامها والمقاومة التي تؤرق أحلامها، وتذكِّرها دائمًا بالحقيقة، وهي أن صاحب الحق لا يزال حيًّا مهما سحقته بكل أنواع الأسلحة.
هذا الفريق يخشى أن يؤديَ هذا الهاجس إلى سلامٍ مبتورٍ؛ ولذلك فإنه يريد أن ينهي المقاومة التي تسبَّبت- في نظره- في إحراق غزة، وأن يحاول أن يقدم في عملية السلام الجديدة ضمانات يطمئن بها الكيان إلى أن السلام الجديد سوف تزدهر فيه حدائق المشروع الصهيوني على جثث الفلسطينيين، ما دام المشروع يهدف أساسًا إلى إخلاء الأرض من سكانها.
يرى هذا الفريق أيضًا أن المحرقة كانت درسًا لكل من تساوره أحلام الشعور بأنه ند للكيان الصهيوني؛ ولذلك يجب أن تعكس عملية السلام الجديدة هذا الميزان المختل بين الطرف المسحوق والطرف المنتصر.
على الجانب الآخر، هناك فريق عربي ودولي مناقض؛ يرى أن إحراق غزة كان أكبر دليل على أن الكيان لم يُخلق للسلام، وأن هذه القوة الباطشة قد أقلقت العالم كله، وأشعرت المجتمع الدولي بأن هذا الكائن الغريب المتوحش قد انتهك القيم العليا لهذا المجتمع، فأخرج هذا الكيان نفسه من دائرة البشرية الإنسانية.
ولهذا السبب فإنه لا يمكن تصوُّر الجمع بين الماء والنار؛ فالسلام ماء ونسيم وخضرة ورخاء، وأما النار فهي أداة الإحراق والإبادة، وبعبارة أخرى: فإنه لا يمكن أن يجتمع الجن والإنسان؛ فالجن حارق والإنسان محروق، وهذه هي الحجة التي ساقها إبليس في المحاجة الكبرى التي أدارها الله سبحانه وتعالى مع الملائكة عندما أمرهم بأن يسجدوا لأدم، فتذرع إبليس بأنه من نار وأن آدم من طين، أما الملائكة الآخرون فهم من نور، ونادرًا ما تبعث النار نورًا، ونادرًا ما يلتقي النور مع النار.. هذا هو حال الكيان الصهيوني مع العرب في هذه الفرضية الجديدة.
يرى هذا الفريق أنه لا بد من تطهير الجسد الناري الصهيوني الذي لا يقبل تطهير؛ لأن الجسد كل لا يتجزَّأ؛ ولذلك لا يمكن إقامة السلام معه، ولا بد من زجره وهجره وعزله حتى يثبت أنه من طبيعة البشر وأنه يمكن التعايش معه، وفي هذه الحالة يمكن تصور قيام الكيان الصهيوني.
من الواضح أيضًا أن الخلاف بين الفريقين قد تحوَّل إلى صراع؛ فالفريق الذي يرى أن إحراق غزة هو قربان للسلام مع الكيان الصهيوني والمصالحة بين الفلسطينيين قد فوجئ بأن إحراق غزة قد أدَّى إلى المزيد من الشقاق والابتعاد بين طرفي المعادلة الفلسطينية، خاصةً أن كل طرف قد اتهم الآخر بأنه السبب فيما حدث: اتهمت حماس أبو مازن بالتآمر مع الكيان الصهيوني للعودة إلى غزة على دبابة صهيونية، مثلما اتهم أبو مازن حماس بأنها عجزت عن إدارة الخلاف مع الكيان؛ مما عرَّض شعب غزة لهذه الأهوال؛ مما يُثبت أن القيادة الحكيمة التي لا تثير مشاكل مع الكيان الصهيوني هي التي تجنِّب الشعب الفلسطيني في غزة، كما قال أبو مازن إن انقلاب حماس على السلطة وضعها في دائرة اللا شرعية، فسهَّل على الكيان أن تقوم بإحراق القطاع.
معنى ذلك أن السلام والمصالحة هو هدف الفريقين، ولكن المشكلة في الأسس التي يقوم عليها السلام والمنطلقات التي ينطلق منها.
فمن ناحيةٍ أخرى يرى الفريق الموالي للكيان الصهيوني أن محرقة غزة درسٌ في عدم جدوى المقاومة، بل والخطر الذي تجلبه على الشعب في ظل تفوق الكيان الكاسح وقدرته على الإضرار بالشعب الفلسطيني؛ ولذلك فإن السلام الجديد يجب أن يقوم صراحةً على وقف المقاومة وإنهاء سيطرتها على غزة، والتفاهم مع صوت واحد هو رئيس السلطة، وهو وكيل الدم بالنسبة لكل الفلسطينيين، وأن المقاومة عقبة في سبيل بسط سيطرته الكاملة على شعبه في الضفة والقطاع؛ يترتب على ذلك محاصرة المقاومة وقطع صلتها بكل الأطراف التي تساندها، ومنع تزويدها بأي سلاح؛ بما في ذلك تهريب السلاح لها عبر الأنفاق على الحدود بين مصر وغزة.
ونظرًا لعدم ثقة الكيان في مصر فقد اتفق مع الولايات المتحدة على تأمين هذه الحدود بمعايير صهيونية وأمريكية، بما يقتضيه ذلك من جلب مراقبين أو قوات على الحدود، وهو ما رفضته مصر من زاوية الحدود المصرية.
أما أبو مازن فيصرُّ على جلب قوات دولية لحماية الشعب الفلسطيني في أغلب الأحوال من المقاومة لا من الكيان، والدليل على ذلك أن الكيان يؤيد اقتراح أبو مازن، بعد أن كان يرفض هذا الاقتراح عندما كان هدفه الأول هو حماية الشعب الفلسطيني من الكيان الصهيوني.
على الجانب الآخر ترى المقاومة أن إحراق غزة دليلٌ على بربرية الكيان الصهيوني، وشاهد على تآمر السلطة معه وبعض الدول العربية، وسقوط العالم العربي، ودعم بعض الدول الكبرى إياه.
أما صمود المقاومة ضد الكيان فثمنه أن يقوم السلام على أساس إسقاط خيار المفاوضات، والتركيز على جدوى المقاومة التي لا يقهر الكيان الصهيوني سواها، خاصةً أمام المشروع الذي يتقدم بالاستيطان كل يوم، والذي يُضاعف الوحدات الاستيطانية منذ مؤتمر أنابوليس في نوفمبر 2008م- الذي تعهَّد فيه الكيان الصهيوني بوقف الاستيطان- عشرات المرات؛ مما يدل دلالةً عمليةً على أن تعهدات الكيان وواشنطن من قبيل تخدير الجانب العربي والفلسطيني.
ترى المقاومة أيضًا أن إحراق غزة تمامًا، كما أُحرقت لبنان، كان هدفه الضغط على الجسدين الفلسطيني واللبناني، لكي تخرج الروح الشريرة- وهي حماس في فلسطين وحزب الله في لبنان- بينما إذا خرجت هذه الروح الطاهرة فلن يبقى سوى الجسد أسيرًا للبطش الصهيوني.
تلك هي المعادلة في المواجهة بين الفريقين، فمن ترجح كفته؟! المقاومة أساس السلام؟! أم السلام الصهيوني هو مكونات هذا السلام المطلوب؟!