22/01/2009
إن المتابع عن كثب لحركة حماس و أسلوب إدارتها للأزمات الجارية على الساحة الفلسطينية سرعان ما يدرك أنه أمام تنظيم سياسي إحترافى بكل ما تعنيه الكلمة وظهرت هذه الحرفية أكثر في إدارة أزمة العدوان الإسرائيلي على القطاع ، لقد كان الفعل الحمساوى يبعث بالفعل على الدهشة و يجعلك ترفع القبعة احتراما و إجلالاَ لهذا النبت الطيب المبارك و لعلنا هنا نقدم قراءة سريعة ، تحتاج بكل تأكيد لمزيد من العمق لنعطى لهذه الحركة قدرها و حتى تستطيع كافة حركات التحرر في العالم الاستفادة من هذه التجربة الثرية التي لا ينضب معينها بإذن الله .
ماذا فعلت حماس مع الأنظمة العربية ؟
تعاطت حماس مع الواقع العربي بواقعية فلم تعول كثيرا َ على الحكام العرب و لكنها حرصت و على لسان قادتها على وضعهم أمام مسئولياتهم و ثمنت كل موقف داعم للمقاومة و أشادت به واختلفت و ( عتبت ) على كل نظام يتصادم مع المقاومة و العتاب هنا لغة مهذبة اعتمدتها حماس في إدارة اختلافاتها مع الأنظمة العربية حتى لا تزيد الأمور تعقيداَ ، وحرصت في حوارها مع المختلفين معها أن يكون الحوار بلغة الأرقام واستدعاء التاريخ القديم و البعيد فكانت تدلل على كل موقف بعشرات الأدلة المنطقية و الموثقة التي تلجم الطرف الآخر و تربكه .
كان الموقف الأكثر حساسية بالنسبة لحماس هو الموقف المصري المنحاز بالكلية للموقف الإسرائيلي و إن لجأ في نهاية العدوان لمحاولة إطلاق بعض التصريحات للاستهلاك المحلى و الدولي لتحسين الصورة التي تشوهت و أصبحت أكثر بشاعة من الاحتلال ذاته لأنها من الأخ و الصديق .
ماذا فعلت حماس إزاء هذا الموقف ؟ و خاصة أنها تدرك جيداَ أن روح القطاع – معبر رفح – بيدها ؟ ، في البداية حرصت حماس على عدم الدخول في صراع مباشر و معلن مع النظام المصري و اعتمدت حماس في إدارتها للصراع معه على أسلوب التلميح و الإحراج دون التصادم معه ، بينما تركت مهمة التصادم للمتعاطفين مع الحركة سواء من النخب أو الشعوب و كان هجومهم قاسياَ على النظام المصري و ظلت إدارة الأزمة مع النظام المصري تتحرك في خطوط متوازية ، خط تفرضه المقاومة بصمودها و يوصل للجميع رسالة مفادها أن عمر حماس في غزة أكبر مما يتوقعه البعض ، خط آخر لجأ للمواجهة مع النظام المصري بالتلميح و الإحراج حتى لا تستعدى حماس النظام المصري المعادى أصلاَ بمواقفه و الخط الثالث هو خط المواجه المكشوفة و حمل راية هذا الاتجاه هو المتعاطفين مع حماس و مع مشروع المقاومة و كانت هذه الجبهة هي الأكبر و الأكثر تأثيرا َ لأنها لم تقتصر على المثقفين و المفكرين فقط و لكنها شمل كل الشعوب الحرة حول العالم و المتتبع لتصريحات خالد مشعل يجد في كل حديث تقريباَ مطالبته للشعوب باستمرار انتفاضتها الداعمة للمقاومة و للأمانة لم تكن الشعوب في حاجة إلى من يوجهها فالحدث كان موجعاَ و فاجعاَ للدرجة التي لا يحتاج أحد إلى من يطالبه بالتحرك ، وكانت نتيجة هذا الفعل السياسي هو أن حماس كسبت المعركة مبكراَ و قبل أن تضع الحرب أوزارها كان العدو الإسرائيلي و الحليف المصري يصابا بتخبط في الحركة تحت ضربات الحراك الشعبي العربي و العالمي و خرجت حماس من المعركة و هي تمثل كل رمزية الصمود و المقاومة لمعظم شعوب العالم بينما خرج النظام المصري الرسمي منكس الرأس مكروه من الجميع .
ومما يوضح مدى حرفية حماس في عدم فقد هذا الزخم و الرصيد العالمي ، هو عدم لجوء حماس لسلاح الاستشهاديين داخل العمق الإسرائيلي حتى لا يحدث أي اهتزاز لصورة حماس أو للدعم المعنوي الذي وفرته لها الشعوب .
كيف تعاملت حماس مع العدو في حربه الوحشية ضد الشعب الفلسطيني ؟
أدركت حماس منذ اللحظة الأولى أنها تتعامل مع عدو مفرط في القوة و الوحشية على حد سواء ، لذلك حرصت حماس منذ بداية الحرب على توحيد الكلمة و السلاح في غزة و نجحت في ذلك نجاحاَ باهراَ بحيث أن المرء لم يشعر طيلة الحرب بأن هناك ( فصائل ) تحارب و لكن ( فصيل ) واحد يتحرك بتنظيم و تنسيق متميز ، كما أدركت الحركة أن تحقيق النصر على إسرائيل لا يتحقق بالمواجه المباشرة و لكن بإفشال أهدافها ، بحيث يكون النصر لا بتكسير عظام العدو و إن كان هذا غاية المنى و لكن بإفشال مهامه التي أعلن عنها و برر بها حربة البربرية ضد الشعب الفلسطيني ، لذلك اعتمدت حماس على إستراتيجية المواجهة غير المباشرة مع العدو للحفاظ على بنيتها التحتية مع استخدام الحرب النفسية و إحداث توازن الرعب عبر تدفق الصواريخ على المدن و البلدات الإسرائيلية التي كانت – الصواريخ اليومية - تعلن فشل الحملة الإسرائيلية حتى انتهت الحرب و لم تحقق إسرائيل هدفاَ واحداَ مما أعلنته و كان هذا الفشل الذريع هو لب انتصار حماس فحين تكون الحرب بين طرف مفرط في القوة و طرف آخر مفرط في الضعف – المادي – يصبح الثبات على الموقف هو أعظم انتصار .
كيف تعاملت حماس مع المنظمات الدولية ؟
حماس هي أكثر من يعرف أن معظم المنظمات الدولية وجدت من أجل أمن إسرائيل و تبرير مواقفها ، لذلك لم تلتفت إليها كثيراَ بل اعتبرت أن اللجوء إليها من الأنظمة العربية هو من باب العبث و العجز بل يصب في صالح الاحتلال ذاته ، حيث ساوت هذه المنظمات بين الجاني و الضحية ، لكن حماس من جانب آخر حرصت على أن تكسب معركتها مع المنظمات الدولية غير الحكومية و التي تحظى بمصداقية لدى شعوب العالم و كان وسيلة حماس هو توثيق الحدث بالصوت و الصورة فسهلت قدر المستطاع مهمة وسائل الإعلام ووفرت لهم كل دعم ممكن للقيام بعملهم ونقل كل هذا الزخم الهائل من صور و مشاهد الدمار و قتل الإنسان و استخدام الأسلحة محرمة دوليا َ إلى هذه المنظمات بل دعوتهم إلى غزة لرؤية الجريمة بأم أعينهم ، و كسبت حماس أيضاَ هذه الجولة و بفضل العدو المجرم الذي لم يترك فرصة إلا وأثبت فيها مدى خسته ونذالته ، فأدانت معظم المنظمات الحقوقية ما حدث في غزة بل بدءوا في رفع قضايا أمام المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة قادة العدو كمجرمي حرب .
كيف إدارة الحركة علاقتها مع أبومازن و السلطة الفلسطينية ؟
استخدمت حماس مبدأ المكاشفة و المواجهة مع نظام عباس و خصوصاَ أن تواطئه كان مفضوحاَ للجميع ، و أدركت حماس منذ اللحظة الأولى أن يد عباس و نظامه ملوثه بدماء الشعب الفلسطيني فكشفت حماس حجم تواطئه و عرّته أمام الجميع و بينت أن اغتيال سعيد صيام لم يكن ليتم بدون مساعدة من السلطة ثم جاء غياب عباس عن قمة الدوحة كاشفاَ بلا مواربة عن حجم الخيانة و تكفّل هو بفضح نفسه ، نعم استجابت حماس لدعوات الحوار التي وجهت إليها و لكنها كانت تدرك أنها دعوات لإضاعة الوقت فتعاملت معها بحجمها و قدرها ، كما ظهر سمو و نبل حماس أثناء العدوان ، فرغم أنها أعلنت قبل بدأ العدوان أنها لن تعترف بعباس رئيساَ لفلسطين بعد التاسع من يناير إلا أنها لم تجعل هذا معركتها الأساسية أثناء العدوان ، حاولت حماس رأب الصدع و لكن لمّا أصبحت رائحة الخيانة تزكم الأنوف لم يكن أمام حماس سوى المصارحة حتى يحدث التمايز بين الحق و الباطل و حتى يعرف الشعب الفلسطيني من يشارك في قتله وسفك دمه .
كيف أدارة حماس علاقتها بالشعب الفلسطيني ؟
علمت حماس أنها لا يمكن أن تنجح في صد العدوان دون احتضان شعبي لها ، فعملت منذ اللحظة الأولى على التعبئة المعنوية الإيمانية و إيضاح الحقائق للجميع و القيام بواجبها كحكومة شرعية من الوفاء باحتياجاته قدر المستطاع .
لم تكن هذه التعبئة الشعبية بالطبع وليدة المعركة فحسب و لكنها جزء أساسي من مشروع حماس الحضاري و كان أهم ما قدمته حماس للشعب الفلسطيني هو النموذج و القدوة في التضحية و الفداء فقدمت من دماء قادتها الكثير و بالتالي أصبح الشعب أكثر اقتناعا بها لأنها أصبحت في مقدمة من يضحى في سبيل الأرض و العرض و الدين .
إن إدارة حماس لأزمة العدوان يدل على نضج سياسي و فكرى و حركي على أعلى مستوى و لا أدعى أن ما فعلته حماس في إدارتها للأزمة يمكن أن يحتويه مقال و لكنها إطلالة سريعة على حركة احتلت بالفعل مرتبة عالية في ضمير هذه الأمة بل لعلى لا أكون مبالغاَ إذا قلت أن حماس أصبحت نموزجاَ يحتذي لكافة حركات التحرر في العالم .

