كنت إذا نظرت إلى وجهه في شاشة التلفاز أو في محاضرة أو لقاء فكري يدهشك بروح البراءة الطفولية التي تخترق القلب بكل سهولة ، فلا تملك إلا أن تحبه وتثق فيه حتى من قبل أن يتكلم معك أو مع من حولك ، هكذا كان العالم الراحل الجليل الدكتور محمد سيد أحمد المسير ، لم تكن لي به صلة وثيقة ، ولا أذكر أني قابلته بشكل شخصي سوى مرة واحدة عندما أجريت معه حوارا حول كتابه "الحوار بين الجماعات الإسلامية" في قناة اقرأ قبل حوالي عشر سنوات على ما أذكر ، كان إذا تحدث إليك امتلأت نفسك بالسكينة والطمأنينة ، وتشعر بأنك أمام حالة علمية بالغة الشفافية ، يتكلم بتلقائية شديدة وبدون أي تكلف ، لا في حركاته ولا في عباراته ولا في القضايا التي يطرحها ، بساطته وجديته وتواضعه وأدبه الواضح وخلقه الرفيع وتساميه في الخلاف والخصومة كلها كانت صفات ملاصقة له ، تستطيع أن ترصدها في حواراته الإذاعية أو كتاباته ومقالاته ، وهذا المزيج من الصفات كان يمنح آراءه قوة إقناع وقبول كبيرين في أوساط الناس على مختلف المستويات ، كما كان محبوبا من الجميع ، وكان الرجل متجردا للحق ولدعوة الحق ولنصرة الحق ، أيا كانت العواقب والتبعات ، ولم يمنعه الحرج أو خوف سلطة روحية أو سياسية أن يتصدى لبعض القضايا التي كانت جهات رسمية تحاول فرضها على الضمير الإسلامي ، وشهيرة هي قصة خلافه مع الشيخ محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر حول قضية ربا البنوك ، ولعل الله قد أقر عينه قبل وفاته بالاعتراف العالمي بجناية "الاقتصاد الربوي" على الإنسانية ، من خلال الانهيار الاقتصادي الكبير الذي كان أشبه بالزلزال الذي ضرب العالم مؤخرا ، وكان جوهر الكارثة ممثلا في "آفة فوائد البنوك" ، تصدى الرجل بكل قوة لآراء شيخ الأزهر التي كانت تصادف هوى واضحا لدى السلطة السياسية ، كذلك تصدى للدكتور محمود حمدي زقزوق في قضية الآذان الموحد ، وكانت له صولات وجولات في التصدي لبعض مظاهر "النزق" الفكري المنتسب إلى الدين وعلوم الدين ، وهو النزق الذي كان ـ وما يزال ـ يروج له بعض من طفحوا على سطح "الإعلام" مؤخرا متحدثين باسم الإسلام ، والإسلام وعلومه منهم براء ، المسير كان تخصصه الأساس هو العقيدة والفلسفة وكان أستاذا لهما في كلية أصول الدين ، وكان آية في مقارنة الأديان وفي معالجة قضايا الفكر المعاصر ، ومع ذلك كان إذا تكلم في الفقه يفوق الكثيرين من المتخصصين في الفقه وأصوله أو التفسير ، كان عقلية مرتبة للغاية ، كما كان غزير العلم ، لم تكن تحتاج إلى كثير وقت لكي تدرك أنك أمام عالم من الراسخين في العلم ، وهو أمر يتصل عادة بمرحلة التأسيس المبكرة في طلب العلم ، وهي قاعدة مضطردة في هذه النوعية من العلماء الأعلام في كل فن ، عادة تجدهم من المتفوقين في صباهم ومرحلة طلبهم العلم ، وهكذا كان الدكتور المسير الذي كان الأول على الجمهورية في الثانوية الأزهرية ، وظلت "بصمة" النبوغ والتفوق بارزة في مسيرته العلمية حتى وفاته ، وكان ختام أعماله ، والأعمال بخواتيمها ، مشروعه الإنساني الكبير للدعوة إلى إحياء فضيلة الحياء في المجتمع ، والذي أتمنى أن ينشط له من الرجال والنساء من يبقونه حيا ويعززون تلك الدعوة ويؤسسون لها المؤسسات الداعمة ، فأمتنا ومجتمعاتنا أحوج ما تكون إلى هذا الخلق الكريم في زمن البجاحة والإسفاف وذهاب المروءات ، ونجاحنا في إكمال هذه الدعوة وتفعليها هو أحسن عزاء نقدمه إلى صاحبها الراحل الكريم ، كما أنها قطعا إحياء سنة نبوية كريمة ، .. خسرنا كثيرا بوفاة المسير ، ولكنها سنة الحياة "قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم" ، رحمه الله رحمة واسعة ، وجزاه عن أمته ومجتمعه خير الجزاء .
[email protected]