تشهد السواحل المصرية تحوّلًا جذريًا لم تشهده من قبل، حيث تُبرم صفقات عقارية بمليارات الدولارات مع مستثمرين أجانب، وتُباع الأراضي بأرقام فلكية، في وقتٍ يعيش فيه ملايين المصريين تحت وطأة أزمة سكن حادة وغلاء معيشي خانق.
فهل ما يحدث هو تنمية حقيقية؟ أم بيع ممنهج لمقدرات الوطن لصالح حفنة من أصحاب النفوذ والمصالح؟
فخلال العام الماضي فقط، قفز سعر المتر في بعض المناطق الساحلية بنسبة 80%، بحسب مقارنة بين أكبر صفقتين أعلنت عنهما الحكومة المصرية.
صفقات بالمليارات... والمتر خارج حسابات الشعب
أحدث صفقات النظام كانت مع شركة "الديار القطرية"، حيث باعت الحكومة قطعة أرض ساحلية مقابل 5.3 مليار دولار، بمساحة 20.5 مليون متر مربع، أي ما يعادل 258 دولارًا للمتر الواحد، وهو سعر لم يكن مطروحًا حتى في أكثر أحياء القاهرة رفاهية قبل سنوات.
وقبلها، في صفقة رأس الحكمة عام 2024، تم بيع 170 مليون متر مربع مقابل 24 مليار دولار، بمعدل 142 دولارًا للمتر.
هذه الفروقات تكشف عن قفزات سعرية جنونية خلال عام واحد فقط، ما يثير الشكوك حول طبيعة السوق، ومن المستفيد الحقيقي من هذا الارتفاع السريع.
حكومة السيسي تبيع الأرض.. والوطن يُقسّم على مقاسات المستثمرين
المقلق في هذه الصفقات أنها تأتي ضمن سياسة منهجية تتبعها حكومة عبد الفتاح السيسي منذ انقلابه في 2013، تقوم على تحويل أصول الدولة إلى أدوات لجلب العملة الصعبة بأي ثمن، حتى لو كان ذلك على حساب العدالة الاجتماعية أو سيادة الدولة على مواردها.
بيع السواحل بهذا الشكل يثير تساؤلات خطيرة:
ما مصير الأجيال القادمة؟
ومن يملك الحق في العيش على أرض مصر؟
وهل أصبح الوطن معروضًا للبيع لمن يدفع أكثر؟
اللافت أن هذه المشاريع غالبًا ما تكون مغلقة أمام المواطنين العاديين، موجهة فقط لأثرياء الداخل والخارج، فيما تُقصى الطبقات المتوسطة والفقيرة من الحلم حتى بالسكن قرب البحر.
مشروعات فاخرة لطبقة محظوظة.. والباقون في العشوائيات
إلى جانب الصفقات، تُعرض اليوم فيلات وقصور في العلمين الجديدة ومراسي وغيرها بأسعار تبدأ من 30 مليون جنيه وتصل إلى 300 مليون جنيه، في حين لا يجد ملايين الشباب فرصة لامتلاك شقة مساحتها 60 مترًا.
الطبقية في السكن وصلت إلى ذروتها، مع تحويل المدن الساحلية إلى غيتوهات مغلقة للأثرياء، بينما تُترك غالبية الشعب في مناطق عشوائية، أو يُزج بهم في تجمعات سكنية "قومية" تفتقر إلى الحد الأدنى من الخدمات والفرص.
الواجهة سياحة واستثمار.. والواقع تهجير وتهميش
تدّعي الحكومة أن هذه التحولات جزء من "رؤية 2030" لجذب 30 مليون سائح، وتوفير فرص عمل، وإنعاش الاقتصاد. لكن الواقع يكشف أن معظم المشاريع يتم تنفيذها عبر شركات أجنبية، ولا تضمن فرص عمل دائمة أو مجزية للمصريين.
بل أكثر من ذلك، تؤدي هذه المشاريع إلى تهجير السكان المحليين قسرًا من مناطقهم، كما حدث في واحة سيوة وأجزاء من سيناء، بحجة التطوير، في حين يتم تسليم الأرض للمستثمر الأجنبي في صفقات لا تخضع لرقابة برلمانية أو شعبية حقيقية.
من يراقب؟ من يحاسب؟
في ظل غياب الشفافية، وتضييق الخناق على الإعلام والمعارضة، تبدو هذه التحولات وكأنها تحدث في الخفاء، دون مساءلة، ودون أي خطة واضحة لضمان أن يكون الشعب هو المستفيد الأول من ثروات بلاده.
ما يحدث الآن على السواحل ليس مجرد طفرة استثمارية، بل إعادة صياغة لهوية مصر الجغرافية والديموغرافية، تُنفذ بأوامر فوقية، تخدم قلة من المنتفعين، على حساب غالبية لا تملك إلا المشاهدة والشكوى.
السواحل تُباع... فماذا بقي؟
تبدو السواحل المصرية اليوم وكأنها غنائم توزيع سياسي واقتصادي بين أطراف دولية ومحلية، في وقت يزداد فيه المصريون فقرًا وتهميشًا.
لا أحد يرفض الاستثمار، لكن الاستثمار الحقيقي هو الذي يخدم الناس لا يُقصيهم، يبني مستقبلًا لا يبيعه، يعمّر الوطن لا يخصخصه.
فهل ما نراه هو مشروع دولة؟ أم تصفية حسابات ما بعد انقلاب؟

