في مشهد عبثي ينفصل تماماً عن واقع الألم الذي يعيشه ملايين المصريين، وقف مصطفى مدبولي، رئيس حكومة الانقلاب، متباهياً بما أسماه "إنجازات" في قطاع الصحة، متحدثاً بدم بارد عن "نهضة" مزعومة، بينما يقف المواطن المصري عاجزاً أمام صيدليات خاوية ومستشفيات تحولت إلى سلع في مزاد الخصخصة.
تصريحات مدبولي الأخيرة، التي جاءت كذر للرماد في العيون، لم تكن سوى غطاء لسياسة ممنهجة يقودها عبدالفتاح السيسي لتفكيك منظومة الصحة العامة وبيع أصولها للمستثمر الأجنبي، تاركاً الفقراء فريسة للمرض والموت المجاني.
أكاذيب "بناء الإنسان" في مواجهة واقع الانهيار
خلال افتتاح النسخة الثالثة من "المؤتمر العالمي للسكان والصحة والتنمية البشرية" في العاصمة الإدارية الجديدة (نوفمبر 2025)، لم يتردد مدبولي في ادعاء أن الدولة تولي اهتماماً كبيراً بالرعاية الصحية باعتبارها ركيزة لـ"بناء الإنسان". ساق رئيس الوزراء أرقاماً صماء عن استثمارات تجاوزت 53 مليار جنيه في 6 محافظات ضمن التأمين الصحي الشامل، وعن مبادرات "100 مليون صحة".
لكن هذه الأرقام الوردية تصطدم بصخرة الواقع؛ فالحديث عن "بناء الإنسان" يبدو نكتة سمجة في ظل انهيار القدرة الشرائية للمريض المصري الذي بات يواجه خيارين أحلاهما مر: إما الموت بانتظار دور في قوائم العمليات الجراحية التي لا تنتهي، أو الاستدانة للعلاج في مستشفيات خاصة رفعت أسعارها بشكل جنوني بعد غياب الرقابة الحكومية. إن ما يسميه مدبولي "تطويراً" هو في الحقيقة "إخلاء مسؤولية" للدولة تمهيداً لانسحابها الكامل من دعم العلاج.
"صحة للبيع".. الإمارات تستحوذ على مستشفيات الغلابة
بينما كان مدبولي يلقي خطبته العصماء، كانت كواليس الحكومة تعمل بنشاط محموم لإتمام صفقات بيع أصول الدولة. التقارير تشير إلى مفاوضات متقدمة لبيع حصص حاكمة في مستشفيات حكومية تاريخية ومراكز طبية متميزة لمستثمرين خليجيين، وعلى رأسهم شركات إماراتية، تحت لافتة "الشراكة مع القطاع الخاص" أو قانون "تأجير المستشفيات". هذه السياسة تعني ببساطة تحويل الخدمة الطبية من "حق دستوري" إلى "سلعة تجارية" تخضع لقوانين العرض والطلب، حيث لا مكان فيها لمحدودي الدخل.
لقد حول السيسي المستشفيات التي بناها الشعب بضرائبه إلى "أصول" تُطرح لسداد ديون تسببت فيها مشروعاته الفاشلة. والنتيجة الحتمية هي تسريح الطواقم الطبية المصرية أو إجبارهم على العمل بعقود مجحفة، واستقدام إدارات أجنبية ترفع تكلفة "تذكرة الدخول" لأرقام فلكية، مما يغلق أبواب الشفاء في وجه السواد الأعظم من المصريين.
أزمة الدواء: "القتل العمد" بقرار سيادي
لعل الجريمة الأكبر التي تتجاهلها حكومة الانقلاب هي "مذبحة الدواء". تشهد مصر منذ أشهر أزمة طاحنة في نواقص الأدوية الحيوية (مثل الإنسولين، أدوية الأورام، والضغط)، حيث اختفت مئات الأصناف من السوق، بينما قفزت أسعار البدائل -إن وجدت- بنسب تجاوزت 30% و40% بقرارات رسمية من هيئة الدواء.
وبدلاً من توفير الدولار لاستيراد المواد الخام، تُهدر الحكومة العملة الصعبة في استكمال الإنشاءات الخرسانية بالعاصمة الإدارية التي احتضنت مؤتمر مدبولي. إن صرخات المرضى الذين يبحثون عن عبوة دواء "منقذة للحياة" في السوق السوداء بأسعار خيالية هي الشاهد الحقيقي على إنجازات السيسي، وليس "الباور بوينت" الذي يعرضه رئيس وزرائه.
طوابير الموت وقوائم الانتظار
يتفاخر النظام بالقضاء على قوائم الانتظار، لكن الشهادات الحية من داخل معهد القلب ومستشفيات الأورام تكذب ذلك. المرضى ينتظرون لشهور طويلة من أجل قسطرة قلب أو جرعة كيماوي، وكثير منهم يفارق الحياة قبل أن يأتيه الدور. هذا التكدس ليس نتاج "ضغط سكاني" كما يدعي إعلام النظام، بل هو نتيجة مباشرة لتقليص الإنفاق الحكومي الحقيقي على الصحة (الذي يقل عن النسبة الدستورية المقررة) وتوجيه الموارد لصالح "اقتصاد الجيش" والشركات التابعة له.
الخلاصة: صحة المصريين في المزاد
إن ما يفعله عبدالفتاح السيسي وحكومته ليس "إصلاحاً"، بل هو عملية تجريف ممنهج للقطاع الصحي. فبينما يبني السيسي قصوراً رئاسية جديدة، يبيع المستشفيات العامة للإمارات. وبينما يشتري طائرات رئاسية فخمة، يعجز المواطن عن شراء شريط دواء. تصريحات مدبولي في مؤتمر السكان ليست إلا محاولة بائسة لتجميل وجه قبيح لنظام يرى في مرض المصريين "عبئاً" يجب التخلص منه، وفي مستشفياتهم "غنيمة" يجب بيعها لمن يدفع أكثر.

