رغم مساعي حكومة السيسي لجذب الاستثمارات وبيع أراضٍ استراتيجية لمستثمرين وصناديق خليجية، فإن أزمة الدين الخارجي ما تزال تمثل عقبة ثقيلة تنسف أي حصيلة دولارية تدخل البلاد.

 

فقد كشف البنك المركزي المصري عن ارتفاع الدين الخارجي إلى 161.2  مليار دولار بنهاية سبتمبر 2025، بزيادة تفوق 300 بالمئة خلال عقد واحد، مع توقعات بأن تصل خدمة الدين في عام 2026 إلى 29.18 مليار دولار، بعد تعديلها بالزيادة بنحو 1.3 مليار دولار عن التقديرات السابقة.

 

وأشار تقرير “الوضع الخارجي للاقتصاد المصري” إلى ارتفاع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي لتبلغ 44.5% بنهاية مارس 2025، مقابل 38.8% قبل تسعة أشهر فقط، فيما ارتفع الدين قصير الأجل إلى 19.2% من الإجمالي، ما يعكس تزايد المخاطر التمويلية قصيرة الأجل على الاقتصاد.

 

فوائد الدين تلتهم الإيرادات

 

بحسب تقرير وزارة المالية الصادر مطلع نوفمبر الجاري، فقد بلغت فوائد الديون 695 مليار جنيه خلال الربع الأول من السنة المالية (2025/2026)، بزيادة 54% عن العام السابق، لتتجاوز للمرة الأولى إجمالي الإيرادات العامة بنحو 50 مليار جنيه.

 

الوزارة أوضحت أن الضرائب ارتفعت بنسبة 37% إلى 566 مليار جنيه، لكنها لم تفِ بتغطية التزامات خدمة الدين، ما رفع العجز إلى 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي خلال ثلاثة أشهر فقط.

 

هذا الوضع، كما يشير خبراء الاقتصاد، يعكس “تغول فوائد الدين على ميزانية الدولة”، ويؤكد أن أي زيادة في الإيرادات تُستهلك مباشرة في سداد الأقساط والفوائد دون أن تنعكس على الخدمات أو التنمية.

 

اعتراف حكومي وتصاعد القلق الدولي

 

في أغسطس الماضي، اعترف نائب وزير المالية أحمد كجوك بتضاعف العجز الكلي لموازنة العام المالي 2024-2025 إلى 1.26  تريليون جنيه، نتيجة القفزة في فوائد الديون.

 

وتوقع صندوق النقد الدولي أن ترتفع ديون مصر الخارجية إلى 202  مليار دولار بحلول 2030، في وقت تلتهم فيه خدمة الدين نحو 80% من الإيرادات و50% من المصروفات العامة، ما يجعل الاقتصاد في دائرة استدانة مستمرة.

 

بيع الأراضي.. عوائد لا تُعالج الجذور

 

ورغم إعلان حكومة السيسي جمع مليارات الدولارات من صفقات بيع أراضٍ ومشروعات استراتيجية للمستثمرين العرب، فإن تلك الأموال لم تنعكس على خفض الدين أو تحسين المؤشرات الاقتصادية.

 

فقد وقّعت القاهرة في نوفمبر 2025 صفقة ضخمة مع شركة الديار القطرية لتطوير أراضي “سملا وعلم الروم” بالساحل الشمالي بقيمة 29.7  مليار دولار، تحصل مصر منها على 3.5 مليارات نقدًا الشهر المقبل، إلى جانب صفقة “رأس الحكمة” مع الإمارات، ومشروعات سعودية وكويتية مرتقبة.

 

لكن خبراء يرون أن “الاعتماد على بيع الأصول” حلّ مؤقت لا يعالج الخلل الهيكلي في الاقتصاد، ولا يوفر تدفقات دائمة بالنقد الأجنبي.

 

تمويل مؤقت لا تنمية مستدامة

 

الخبير الاقتصادي أحمد البهائي يرى أن الاقتصاد المصري “يعاني عيوبًا هيكلية تجعل أي حصيلة من القروض أو الصفقات مجرد مسكنات قصيرة المدى”، موضحًا أن الإفراط في الاقتراض الخارجي لسد الفجوة التمويلية أدى إلى “اقتطاع متزايد من الناتج المحلي للوفاء بالديون، ما أجبر الحكومة على الاقتراض مجددًا لتغطية نفس الالتزامات”.

 

ويشير إلى أن تراجع القدرة على تمويل الواردات من السلع الأساسية تسبب في انكماش العرض الكلي وارتفاع الأسعار، في ظل عجز متزايد بالموازنة والحساب الجاري، ما فاقم الضغوط المعيشية على المواطنين.

 

تصنيف ائتماني في المنطقة الخطرة

 

ويؤكد البهائي أن “تصنيف مصر الائتماني الحالي يقع تحت درجة المراقبة والتعديل (15)، أي ضمن المنطقة غير المرغوبة للمستثمرين”، مشيرًا إلى أن الوضع المالي بات يُعتبر عالي المخاطر بسبب ضعف قدرة الدولة على سداد التزاماتها في المدى المتوسط.

 

ويحذر من أن “الاقتراض لم يعد وسيلة لتمويل التنمية، بل أصبح إدمانًا ماليًا مستمرًا لتمويل العجز وسداد الديون السابقة، في ظل غياب كفاءة الإدارة وتوجيه القروض نحو مشروعات إنتاجية”.

 

من الإفراط إلى الإدمان

 

ووفقًا لخبراء، فإن الحكومة انتقلت من “الإفراط في الاقتراض” إلى “الإدمان عليه”، إذ لم تعد القروض تذهب لمشروعات إنتاجية، بل إلى إنفاق استهلاكي وتمويل عجز مستمر، ما يفاقم ضعف الاقتصاد ويعمّق فجوة الموارد المحلية، وفقًا لـ"عربي 21".

 

ويرى محللون أن المشروعات الكبرى الممولة بالدين لم تولّد عوائد نقدية مستدامة، وأن سوء إدارة الموارد وغياب الشفافية زاد من هشاشة الموقف المالي العام.

 

الاقتصاد على أعتاب مربع الصفر

 

ويخلص البهائي إلى أن الاقتصاد المصري “قد يعود إلى مربع الصفر مجددًا، رغم كل ما يُقال عن إنجازات الإصلاح الاقتصادي”، موضحًا أن تلك الإصلاحات لم تمسّ جوهر المشكلة، المتمثلة في “الاختلال الهيكلي وزيادة الاعتماد على الواردات والاقتراض الخارجي”.

 

ويرى أن ارتفاع الدين إلى 161.2  مليار دولار يضع مصر فوق الحدود الآمنة عالميًا، وأن نسبة الدين إلى الصادرات تجاوزت 450%، أي أكثر من ضعف المعدل الدولي المقبول (200%)، ما يعني أن “حصيلة الصادرات لم تعد تكفي لتغطية الواردات وسداد الديون”.

 

ويختتم بالقول إن “الاقتصاد المصري بحاجة إلى إصلاح حقيقي يعيد التوازن بين الإنتاج والاستهلاك، ويقلص الاعتماد على الاقتراض الخارجي، وإلا فإن كل صفقات البيع ومليارات القروض ستظل مجرد أرقام على ورق، لا تُنقذ الاقتصاد من الغرق”.