كان الأمل معقودًا على أن تختلف الانتخابات البرلمانية القادمة في مصر عن سابقاتها، خاصة أنها تأتي في ظل اضطراب إقليمي حادٍّ يستوجب من النظام تقوية الجبهة الداخلية والانفتاح على إصلاح سياسي يعزز الثقة.
لكن التوقعات سرعان ما انهارت أمام اختيارات أحزاب الموالاة الأربع: مستقبل وطن، حماة الوطن، الجبهة الوطنية، والشعب الجمهوري، التي أعادت تدوير نفس الوجوه القديمة المرتبطة بالحزب الوطني المنحل، تمامًا كما حدث في انتخابات 2010 التي سبقت الانفجار الشعبي في 25 يناير.
تشبيه الانتخابات القادمة بتلك التي سبقت الثورة ليس مجرد استعارة تاريخية، بل توصيف دقيق لواقع سياسي يتكرر بحذافيره: غياب المعارضة، احتكار المشهد من قبل رجال المال والنفوذ، وإحياء الولاءات الأمنية نفسها التي عطلت الحياة السياسية لعقود، لتكتمل بذلك حلقة الانسداد السياسي في أخطر مراحلها.
قوائم انتخابية بلا معايير: الفساد والبلطجة في المقدمة
أثارت منصة “متصدقش” جدلًا واسعًا حين نشرت تقريرًا تضمن أسماء المرشحين المعتمدين من “قائمة الأمن” في الانتخابات المقبلة، وعلى رأسهم مرشحو القائمة الوطنية من أجل مصر، التي تحوّلت إلى مرآة لانهيار المعايير السياسية.
فقد ضمت القائمة أسماءً سبق تورطها في أحداث عنف وبلطجة، أبرزها عيد حماد، ومحمد عبد الرحمن راضي، وأبانوب عزيز عزت، وإيهاب العمدة — وجميعهم شاركوا في واقعة اقتحام نقابة المهندسين في مايو 2023 وكسر صناديق الاقتراع لمنع تجديد الثقة في النقيب المنتخب طارق النبراوي.
بدلًا من محاسبتهم أو رفع الحصانة عنهم، كوفئ هؤلاء بترشيحهم مجددًا في القوائم المضمونة الفوز، في مشهد يعبّر عن انهيار المنظومة الأخلاقية والسياسية للعملية الانتخابية بأكملها.
هيمنة أمنية على المشهد السياسي
لا يمكن إلقاء اللوم فقط على المرشحين الملطخة أيديهم بالعنف أو الفساد، فالمسؤولية الحقيقية تقع على الجهة التي أعادتهم إلى الساحة السياسية، وهي الأجهزة الأمنية التي باتت اللاعب الأوحد في هندسة الحياة السياسية المصرية.
يتحكم جهاز الأمن الوطني في تفاصيل المشهد الانتخابي، وهو جهاز ذو طبيعة أمنية بحتة لا يمتلك أدوات العمل السياسي أو فهم توازناته، ويعتمد على فكرة “الضبط والسيطرة” بدلًا من بناء مناخ سياسي متوازن ومستقر.
وبهذا غاب التمثيل الحقيقي للمعارضة والمستقلين، واحتكر الأمن تشكيل القوائم بما يضمن ولاءها الكامل للنظام لا للشعب.
توريث المقاعد وتدوير رموز النظام القديم
تقرير “متصدقش” كشف أن العديد من المرشحين الجدد ما هم إلا وجوه مُعاد تدويرها من نظام مبارك أو أبناء لنوابه السابقين المتورطين في قضايا فساد وتربح.
فعلى سبيل المثال:
- محمد شيحة، نجل رجل الأعمال أحمد شيحة المتهم السابق في قضية قتل متظاهري يناير، يترشح عن حزب حماة الوطن في دائرة السيدة زينب.
- شريف عناني، نائب الحزب الوطني الأسبق وصاحب تاريخ في الحصول على أراضٍ حكومية بأقل من قيمتها، يعود عبر حزب الجبهة الوطنية.
- محمود الشيخ، أحد كوادر الحزب الوطني وأداة تعبئة سابقة لتعديلات 2019، يمثل مستقبل وطن عن دائرة البساتين.
- راضي عبد الرحمن، نجل نائب الحزب الوطني المتورط في قضايا استيلاء على أراضي الدولة، يترشح مجددًا عن روض الفرج.
وهكذا تعود الأسماء ذاتها التي لفظها الشارع المصري بعد ثورة يناير، لتحتل المقاعد مجددًا بأسماء أحزاب مختلفة، ولكن بذات الولاء والمصالح القديمة.
ظاهرة التوريث السياسي... عائلة واحدة تحكم البرلمان
لم يتوقف الأمر عند إعادة التدوير، بل امتد إلى ظاهرة توريث المقاعد البرلمانية التي أصبحت نمطًا راسخًا في الحياة السياسية.
فقد شهدت الدورات السابقة انتقال المقاعد من الآباء إلى الأبناء:
- رغدة عبد السلام ورثت مقعد والدتها الراحلة ابتسام أبو رحاب.
- آية الجمل خلفت والدها سعد الجمال في برلمان 2021.
- هالة السيد حسن حلت محل والدها السيد حسن موسى في 2019.
- آية فوزي فتي صعدت إلى البرلمان بعد وفاة والدها في العام نفسه.
تحليل لمنصة “صحيح مصر” أشار إلى أن 18% من المرشحين الاحتياطيين في القائمة الوطنية هم من أقارب المرشحين الأساسيين، أي أن البرلمان القادم سيكون عائليًا بامتياز.
توزعت هذه النسبة بين:
- حزب حماة الوطن بـ21 مقعدًا موروثًا.
- حزب الجبهة الوطنية بـ16 مقعدًا.
- حزب مستقبل وطن بـ9 مقاعد.
الأكثر لفتًا للنظر أن أبناء وزراء ورجال أعمال كبار يتصدرون هذه القوائم: من بينهم أبناء وزراء الإسكان والزراعة والعمل السابقين (عاصم الجزار، السيد القصير، محمد سعفان) إلى جانب رجل الأعمال محمد أبو العينين والنائب مصطفى بكري.
دوامة المال السياسي وتوريث الفساد
خطر هذه الاختيارات لا يكمن فقط في تورط كثير من المرشحين في قضايا فساد أو عنف سياسي، بل في ترسيخ دائرة وراثية للفساد، يعاد فيها تدوير نفس الشبكات المالية والعائلية مهما كانت سمعتها سيئة أو مرفوضة شعبيًا.
لقد تحوّل البرلمان من ساحة تمثيلية إلى نادي مصالح مغلق يحتكره رجال المال والسلطة، بينما يقف الشعب متفرجًا على “سيرك انتخابي” فاقد للمصداقية.
الأمن الوطني.. إدارة السياسة بالعقلية الأمنية
المعضلة الأخطر ليست فقط في نوعية المرشحين أو فساد بعضهم، بل في إسناد الملف السياسي بأكمله إلى جهة أمنية تفتقر إلى الحس السياسي والإدراك المجتمعي.
حين تتحول السياسة إلى ملف أمني، تصبح الانتخابات مجرد عملية شكلية، ويغيب عنها جوهر التعددية والمنافسة، ليُعاد إنتاج نفس النظام الذي يراهن على القبضة الأمنية بدلًا من بناء الثقة السياسية.
هذا النهج – كما يحذر مراقبون – يهدد بانفجار سياسي محتمل إذا استمرت الثقة العمياء في السيطرة الأمنية دون إصلاح سياسي حقيقي يعيد الاعتبار للإرادة الشعبية ويمنع عودة البلاد إلى مشهد 2010 بكل ما حمله من مقدمات للغضب والانفجار.

