في ظل تصاعد الأزمة المعيشية التي تعصف بالأسر المصرية، وتآكل القدرة الشرائية للمواطنين، أقدمت حكومة الانقلاب على خطوة فجّة جديدة تمثلت في السماح بتصدير الدواجن المذبوحة والخضروات الطازجة إلى الخارج، في وقتٍ تشهد فيه الأسواق المحلية نقصًا في المعروض، وارتفاعًا غير مسبوق في الأسعار، وسط صمت رسمي على ما يبدو أنه قرار مجحف بحق الأمن الغذائي القومي.
القرار الذي جاء مرفقًا بخطاب دعائي يزعم "تحقيق التوازن في السوق" و"زيادة الإنتاج"، قوبل بموجة غضب شعبي عارم، وانتقادات واسعة من الخبراء الاقتصاديين، الذين اعتبروا أن الحكومة تُضحّي باحتياجات المواطن اليومية مقابل حفنة من الدولارات، لتغطية عجزها المالي، وتمويل مشاريع فارهة لا تمسّ حياة الناس ولا تحسّن أوضاعهم.
مشروع لتجويع الداخل.. وإرضاء الخارج
في بلد يُصنّف أكثر من 60% من سكانه ضمن شرائح الدخل المنخفض، باتت سلع أساسية مثل البيض والدواجن والطماطم "ترَفًا غذائيًا" لا تستطيع ملايين الأسر الوصول إليه.
ومع ذلك، تُصرّ الحكومة على تصدير هذه السلع إلى الخارج، بزعم أنها "زائدة عن الحاجة"، بينما الواقع على الأرض يُثبت العكس تمامًا.
رئيس اتحاد منتجي الدواجن، محمود العناني، حاول تبرير القرار بالحديث عن "فائض في الإنتاج"، لكن تقارير السوق تُشير إلى أن الأسعار ارتفعت خلال شهري سبتمبر وأكتوبر بأكثر من 25%، نتيجة نقص المعروض، وارتفاع تكلفة الأعلاف والطاقة، في ظل غياب رقابة حقيقية أو دعم للصغار المنتجين.
وبينما ترتفع الأسعار في الداخل، تُباع الدواجن والخضروات في الأسواق الخليجية بأسعار تقلّ كثيرًا عن نظيرتها في مصر، ما يُثير تساؤلات مشروعة: لمصلحة من تُتخذ هذه القرارات؟
أرباح للمحتكرين.. وخسارة للمواطن
في دفاعه عن القرار، قال عبد العزيز السيد، رئيس شعبة الدواجن بالغرف التجارية، إن التصدير "ضروري" لتعويض خسائر التجار.
لكن السؤال الأهم: هل المواطن هو المسؤول عن تعويض خسائر رجال الأعمال؟
الواقع يُظهر أن المستفيد الأكبر من التصدير هم مجموعة ضيقة من كبار المحتكرين المرتبطين بالنظام، ممن يحتكرون الإنتاج والتوزيع ويُسيطرون على سلاسل التوريد.
أما المواطن، فكل ما يجنيه من هذه السياسة هو المزيد من الغلاء، وشحّ المعروض، وتآكل دخله يومًا بعد يوم.
ويرى اقتصاديون أن هذه الخسائر المتكررة التي يُبرر بها التصدير ما هي إلا غطاء لتمرير سياسات تهدف لجلب العملة الصعبة بأي وسيلة، حتى لو كان ذلك على حساب طعام الفقراء.
نهب مُقنّن لتمويل مشروعات غير ضرورية
يربط مراقبون بين سياسة تصدير السلع الغذائية، وبين الضغط الهائل الذي تواجهه الحكومة في تمويل مشروعات السيسي العملاقة، مثل العاصمة الإدارية، والقطارات الكهربائية، والمجمعات العقارية الضخمة.
ففي ظل أزمة ديون خانقة، وتراجع الاستثمارات، وشحّ التمويل الخارجي، تُوظَّف الموارد الغذائية كأدوات لتأمين العملة الصعبة، بدل أن تُخصص لتأمين حياة كريمة للناس.
ويقول أحد المحللين: "الحكومة تتعامل مع الدواجن والخضروات كما تتعامل مع الغاز والآثار: أصول تُباع لتمويل مشاريع لا تمسّ المواطن بشيء، سوى من بوابة القروض والضرائب والتقشف".
"الاكتفاء الذاتي".. كذبة رسمية
المفارقة المؤلمة أن الحكومة كثيرًا ما تتحدث عن "الاكتفاء الذاتي" في الغذاء، لكنها تُصدر المنتجات ذاتها التي تعجز عنها موائد المصريين.
فأين هو الاكتفاء الذاتي إذا كان المواطن لا يستطيع شراء كرتونة بيض أو طبق طماطم دون أن يُخصم من دخله الأساسي؟
وتحوّل شعار "تحقيق التوازن" إلى قناع يُخفي تحصيل الدولار بأي طريقة، بينما تتجاهل الدولة المعادلة الحقيقية: الجائع لا ينتج، والجائع لا يبني وطنًا، والجائع لا يثق في سلطته.
النتيجة: شعب جائع.. ودولة بلا رؤية
النتيجة النهائية لهذه السياسات واضحة: شعب يُطارد الطعام، وأسواق ترتفع فيها الأسعار دون ضابط، وحكومة تُصدر الغذاء لتغذّي مشروعات لا تؤكل.
وبدلًا من إصلاح المنظومة الإنتاجية أو دعم صغار المزارعين، تفضّل الحكومة طريق الترقيع والنهب الممنهج، حيث يبقى المواطن هو الخاسر الدائم في معادلة لا تراعي أولوياته.
وأخيرا فإن غذاء المصريين ليس سلعة تصديرية
في النهاية، يبقى السؤال الأهم: هل أصبح غذاء المصريين سلعة للتصدير فقط؟
إن ما يحدث اليوم ليس مجرد قرار اقتصادي، بل انحراف خطير عن مفهوم الدولة الاجتماعية، واعتداء على الحق الأساسي في الغذاء.
فحين تُباع الدواجن والطماطم والبيض في الخارج، ويبقى المواطن في الداخل يبحث عنها في طوابير أو يتخلى عنها، فإن هذا ليس سوقًا حرة، بل سوق مُجرّدة من العدالة، تُدار لحساب السلطة لا الشعب.

