في خطوة وصفت بأنها استجابة لضغوط واسعة واحتجاجات متصاعدة، وافق مجلس النواب المصري في 16 أكتوبر 2025 على إرجاء تطبيق قانون الإجراءات الجنائية الجديد حتى الأول من أكتوبر عام 2026. جاء هذا القرار بعد أشهر من الجدل الحاد والغضب في الأوساط القانونية، قادته نقابة المحامين التي رأت في القانون "عدوانًا" على ضمانات المحاكمة العادلة وحقوق الدفاع، مما دفع الكثيرين للاعتقاد بأن قرار التأجيل لم يكن مجرد خطوة تنظيمية، بل محاولة من السلطة لاحتواء ثورة محتملة من أصحاب الرداء الأسود.
جوهر الاعتراض: مواد تقوض العدالة
تركزت انتقادات المحامين على عدد من المواد التي اعتبروها تمثل تراجعًا خطيرًا عن المكتسبات الدستورية والحقوقية. كانت المادة 105 من مشروع القانون هي الشرارة التي أشعلت فتيل الأزمة، حيث كانت تمنح النيابة العامة سلطة التحقيق مع المتهم واستجوابه دون حضور محاميه في حالات "السرعة والخشية من ضياع الأدلة".
وقد أعلن نقيب المحامين، عبد الحليم علام، رفضه القاطع لأي استثناءات على هذه المادة، مؤكدًا أنها تتعارض بشكل مباشر مع المادة 54 من الدستور المصري، التي توجب حضور محامٍ مع المتهم أثناء التحقيق. واعتبر المحامون أن هذه المادة تفتح الباب على مصراعيه أمام انتهاك حقوق المتهمين وتقنن ممارسات كانت تتم بشكل غير رسمي.
لم يكن الاعتراض قاصرًا على المادة 105 وحدها، بل امتد ليشمل مواد أخرى تنتقص من دور المحامي وتوسع من سلطات النيابة العامة على حساب القضاء :
المادة 72: نصت على أنه "لا يجوز لوكيل الخصم الكلام إلا إذا أذن له عضو النيابة العامة"، وهو ما وصفه حقوقيون بأنه يفتقر إلى "الذوق التشريعي" ويقوض حق الدفاع الأصيل.
المادة 73: منحت النيابة الحق في منع المحامين من الاطلاع على أوراق التحقيق قبل الاستجواب، مما يحرم الدفاع من القدرة على الإعداد الفعال.
توسيع صلاحيات النيابة: أعطى القانون الجديد للنيابة سلطات كانت حكرًا على القضاة، مثل فرض غرامات، كما سمح بتسجيل المكالمات الخاصة دون الرجوع للقضاء.
احتجاجات نقابية ومواقف حاسمة
لم تقف نقابة المحامين مكتوفة الأيدي. ففي 5 أكتوبر 2025، عقدت النقابة اجتماعًا طارئًا لمجلسها العام والنقباء الفرعيين، وأصدرت بيانًا حاد اللهجة أكدت فيه رفضها للمساس بالضمانات الدستورية. وتوجت هذه التحركات بعقد مؤتمر صحفي حاشد في 8 أكتوبر 2025، دعا إليه النقيب عبد الحليم علام كافة وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية لشرح موقف النقابة التاريخي الرافض للقانون.
انسحاب تاريخي من البرلمان
وصل الصدام إلى ذروته في 3 أكتوبر 2025، خلال اجتماع اللجنة الخاصة بمجلس النواب لمناقشة المواد المعترض عليها. ففي واقعة احتجاجية لافتة، أعلن نقيب المحامين عبد الحليم علام انسحابه من الجلسة اعتراضًا على إصرار اللجنة على تمرير المادة 105 بصيغة تسمح بالتحقيق مع المتهم دون محامٍ.
وأكد النقيب حينها أن ما حدث هو "انحراف تشريعي" يخالف مقصد رئيس الجمهورية الذي أعاد القانون للمراجعة بهدف زيادة الضمانات وليس الانتقاص منها. ولم يكن النقيب وحده، بل انسحب معه ثلاثة من النواب أعضاء اللجنة، وهم ضياء الدين داوود، وأحمد الشرقاوي، ومها عبد الناصر، الذين أعلنوا رفضهم القاطع للمساس بحق الدفاع. هذا الموقف الحاسم حظي بإشادة واسعة من أعضاء النقابة العامة والنقابات الفرعية، واعتبر رسالة قوية بأن المحامين لن يقبلوا بتمرير القانون بصيغته الخلافية.
تأجيل يمتص الغضب
برر مجلس النواب ووزير العدل قرار تأجيل القانون بالحاجة إلى "اعتبارات عملية وتنظيمية" لضمان التطبيق السليم، مثل تجهيز البنية التحتية التكنولوجية وتدريب القضاة وأعضاء النيابة والمحامين على الأحكام الجديدة. لكن بالنسبة للمحامين، كان السبب الحقيقي هو نجاح ضغطهم المنظم.
وكانت الرئاسة قد أعادت مشروع القانون في وقت سابق إلى البرلمان لمراجعة ثماني مواد، في خطوة قوبلت بتقدير من النقابة آنذاك، حيث اعتبرت إشارة إلى وعي القيادة السياسية بخطورة التشريع. إلا أن محاولات اللجنة البرلمانية إعادة تمرير المواد الخلافية بصيغ ملتوية أدت إلى تجدد الصدام، الذي انتهى بقرار التأجيل.
في المحصلة، يمثل قرار تأجيل تطبيق قانون الإجراءات الجنائية انتصارًا واضحًا لنقابة المحامين، ويؤكد على قدرتها على التأثير كقوة ضغط لا يستهان بها. ومع ذلك، فإن المعركة لم تنته بعد، بل تم ترحيلها. فالخلافات الجوهرية حول ضمانات المحاكمة العادلة وحقوق الدفاع لا تزال قائمة، وستبقى الأعين شاخصة نحو ما ستسفر عنه المراجعات القادمة قبل الموعد الجديد للتطبيق في عام 2026.