إحسان الفقيه
كاتبة أردنية
انقضى ما يزيد عن ألف سنة منذ إنشائه، لم يزل خلالها الأزهر الشريف منارة علمية امتد شعاعها إلى أرجاء المعمورة، فلا يكاد يخلو بلد عربي أو إسلامي من أبناء له جرى تكوينهم العلمي والفكري، بين أرجاء هذه المؤسسة العريقة، فالأزهر كان وما زال يمثل وسطية الإسلام، سواء في المناهج التعليمية أو الممارسات الدعوية، ولم يتهمه عاقل منصف بالتطرف والتشدد في يوم من الأيام، بل على العكس من ذلك كانت تكال له الاتهامات من قبل بعض التيارات المتشددة، بأنه تيار متميع متساهل.
ومع أنني أتجه بقلمي إلى القضايا الكلية للأمة، والتحديات الإقليمية الضخمة التي تمر بها، إلا أنني أعتبر شؤون الأزهر جزءا من هذه القضايا العامة، لذا يؤلمني أن يتم تهميش دور هذه المؤسسة الوسطية، والقفز على دورها الريادي، أو اتهامها ولو بشكل غير مباشر، بأنها لا تحقق المقصود الحقيقي من التنوير الفكري.
تبنت الدولة المصرية مؤخرًا مشروعًا تنويريًا يتضمن التحاق حاملي الدكتوراه من دعاة وزارة الأوقاف في الأكاديمية العسكرية المصرية في دورة تستغرق عامين، لمنحهم درجة علمية مرموقة، ضمن خطة إنشاء تيار ديني مستنير يجابه تطورات العصر وتراكم أشكال التخلف والانحطاط الديني، نظرا لحدوث «غث كثير منذ 1400 سنة»، على حد تعبير الرئيس المصري، في حديثه خلال لقائه مع الدعاة الملتحقين في الأكاديمية العسكرية. لا شك في أن التنوير الديني وتطوير الخطاب الدعوي أمر مطلوب، شرط عدم المساس بقدسية النصوص، والحفاظ على الثوابت الدينية، وعدم مخالفة ما أجمعت عليه الأمة، وعدم تسييس الدين، وعدم تطويع نصوصه للتوجهات السياسية.
لن أتحدث ها هنا عن ماهية علاقة هذا التيار التنويري، الذي تعمل عليه الدولة بمعزل عن الأزهر في الأكاديمية العسكرية، ولا عن الجهة المنوطة بوضع مناهجه التعليمية والقائمين على التدريس، ولا عن شكل الخطاب الدعوي الذي يراد لهذا التيار أن يتبناه وكيف سيكون.
ما أود تسليط الضوء عليه في هذا المقام، هو أن المشروع يستبطن اتهاما غير مباشر للأزهر بأنه تيار ظلامي متشدد بعيد عن وسطية الإسلام، غير مؤتمن على الفكر الإسلامي، ولا يصلح لمواجهة التطرف الديني، وهذا أمر خطير، يقوض من سمعة وقيمة وتاريخ وفاعلية هذه المؤسسة العريقة. لطالما نادت الدولة الشعب المصري بالالتفاف حول الأزهر كمرجعية علمية وفكرية لمواجهة أفكار الجماعات الموسومة بالتشدد، وكان من الطبيعي بعد خلوّ الساحة ـ تقريبا- من تلك الجماعات أن يتم دعم الأزهر دعما كاملا لاستكمال دوره التاريخي في نشر وسطية الإسلام والتنوير بمفهومه الموضوعي، لا المزيف.
إنشاء هذا التيار لهذه المهام، التي تم التصريح بها، من شأنه أن يفقد ثقة الجماهير في الأزهر، خاصة وأنه من الطبيعي أن تدعم المنابر الإعلامية الرسمية هذا التيار، على حساب هذه المؤسسة الدينية الرسمية، علما بأن الأزهر لم يسلم طيلة السنوات الماضية من الهجوم الإعلامي واتهامه بالتطرف.
أرى أن بروز مثل هذا التيار في مواجهة الأزهر، سوف يعيد إنتاج الانقسام مرة أخرى في الشارع المصري، فبعد أن كانت المواجهة الفكرية بين الأزهر والجماعات الدينية، التي لم تتكون في رحابه، ستكون المواجهة الفكرية هذه الجولة بين الأزهر وبين هذا التيار الجديد، الذي بطبيعة الحال سيكون له توجهات دعوية وفكرية مغايرة لما عليه الأزهر.
أعتقد أنها كانت فرصة سانحة للنظام في توحيد الخطاب الدعوي وحصره في المؤسسة الرسمية، بعد إقصاء الدعاة والعلماء الذين نشأوا وعملوا خارج إطار المؤسسة الدينية الرسمية، فالذي يُتوقع حدوثه أن يكون هناك خطابان، خطاب للأزهر، وخطاب آخر لتيار رسمي أيضا، لكنه يحمل مضامين مختلفة، فما الذي يمكن أن يؤدي إليه ذلك سوى إثارة البلبلة وخلخلة الاستقرار الفكري؟
إن كان هذا التيار المُزمع رعايته تيارا تنويريا، فالأزهر ليس ظلاميا وليس رجعيا، فمن يتابع شؤون الأزهر لن يجد عناء في إدراك مواكبة هذه المؤسسة لمتغيرات العصر، سواء في تحديث المناهج، أو في الفتوى ومراعاة الواقع، أو في أساليب الدعوة، أو في الخطاب العام. كما أن الأزهر مؤسسة منفتحة على العالم، تتبنى لغة الحوار مع الآخر والالتقاء بين شعوب الأرض على المبادئ الإنسانية، وتتعاطى مع الأحداث الإقليمية والدولية، وتؤكد دائما على مبادئ السلام والتعايش الإنساني وإعلاء قيمة الإنسان ككائن كرمه الله.
ويظهر كذلك بوضوح من خطاب الأزهر أنه يعزز القيم الوطنية والاتجاه إلى التنمية والأخذ بوسائل القوة والتحضر، ويؤكد دائما على اللحمة الوطنية بين شركاء الوطن على اختلاف مشاربهم الدينية، فما الذي يُراد من الأزهر أكثر من ذلك لكي يتم الاعتراف بأنه مؤسسة تنويرية وسطية، ليست ظلامية وليست رجعية، ولا تكرس للتطرف الفكري، وليست مصنعا لإنتاج التشدد كما يُزعم؟

