في صباح اليوم الإثنين، لم يكن سقوط "التروسيكل" الذي يقل أطفال المدارس في مصرف حواس بقرية منقباد في أسيوط مجرد حادث عرضي، بل كان تجسيدًا صارخًا لفشل الدولة المزمن وإهمالها الممنهج لأبسط حقوق مواطنيها، خصوصًا في القرى والنجوع المنسية.
المشهد المأساوي لإنقاذ 10 أطفال من مياه الصرف الصحي، والبحث عن مفقودين آخرين، لا يمثل سوى نتيجة حتمية لسياسات تتجاهل الإنسان لصالح واجهات براقة ومشاريع دعائية لا تمس حياة المواطن البسيط.
السؤال الذي تتجنبه السلطات هو: لماذا كان "تروسيكل" غير آمن هو وسيلة النقل الوحيدة المتاحة لهؤلاء التلاميذ؟
الإجابة تكمن في غياب شبه كامل لشبكات النقل العام الآمنة والمنظمة في المناطق الريفية، مما يترك الأهالي فريسة للحلول العشوائية والخطرة لنقل أبنائهم إلى المدارس.
إن اختلال توازن المركبة ليس السبب الحقيقي، بل هو العَرَض الأخير لمرض الإهمال الحكومي المتجذر الذي ترك فراغًا ملأته وسائل نقل الموت هذه.
تفاصيل الحادث: فوضى النقل الريفي
وقع الحادث أمام مدخل قرية سلام التابعة لمنقباد، عندما اختل توازن “التروسيكل” أثناء سيره، ليسقط في المصرف المائي الذي يمر بمحاذاة الطريق.
وسرعان ما تحولت لحظات الذهاب إلى المدرسة إلى مأساة إنسانية، إذ هرع الأهالي إلى موقع الحادث لإنقاذ أبنائهم بأيديهم، قبل أن تصل سيارات الإسعاف وقوات الإنقاذ النهري.
ونجحت فرق الإنقاذ، بمساعدة السكان المحليين، في إنقاذ عشرة أطفال حتى الآن، تم نقلهم إلى مستشفى أسيوط الجامعي ومستشفى أسيوط العام لتلقي العلاج اللازم، فيما تستمر عمليات البحث في المياه تحسبًا لوجود مفقودين آخرين.
حضور رسمي متأخر ومكرر
وبينما كان الأهالي يغوصون في مياه المصرف لإنقاذ أبنائهم، صدرت البيانات الرسمية المعتادة.
فقد أعلن محافظ أسيوط اللواء هشام أبو النصر أنه يتابع الحادث “لحظة بلحظة”، ووجّه برفع درجة الاستعداد في المستشفيات والأجهزة التنفيذية.
لكن هذه العبارات – التي تتكرر في كل مأساة – لم تعد تقنع أحدًا، فالأهالي يدركون أن “المتابعة اللحظية” لا تعيد أرواح الضحايا ولا تضع حدًا لسلسلة الحوادث التي أصبحت مشهدًا متكررًا في الريف المصري.
غياب النقل الآمن... والبدائل المعدومة
الحادث أعاد إلى الواجهة أزمة النقل المدرسي في القرى المصرية، حيث يعتمد آلاف الأطفال على وسائل بدائية مثل “التروسيكل” أو العربات المكشوفة للوصول إلى مدارسهم.
في ظل غياب أي منظومة نقل حكومية آمنة، يجد الأهالي أنفسهم مضطرين للمخاطرة بأرواح أبنائهم يوميًا.
ويؤكد أهالي منقباد أن “التروسيكلات” ليست وسيلة نقل اختيارية، بل هي الملاذ الوحيد بعد أن تجاهلت الدولة تمامًا احتياجات المناطق الريفية من وسائل نقل آدمية. لا طرق ممهدة، ولا خطوط أتوبيسات مدرسية، ولا رقابة حقيقية على المركبات التي تنقل الأطفال.
محاولات التجميل الرسمي
المحافظ وجّه – كعادته – بمراجعة التراخيص الفنية والقانونية لوسائل النقل في المنطقة، لكن خبراء يرون أن مثل هذه التصريحات لا تتجاوز حدود “إطفاء الغضب الشعبي”، دون أي خطوات إصلاحية حقيقية.
فكيف يمكن مراجعة آلاف التروسيكلات المنتشرة في قرى الصعيد دون توفير بدائل حقيقية أو دعم للأهالي؟
وفي الوقت الذي تتحدث فيه الحكومة عن “خطة تطوير الصعيد”، لا تزال أبسط مقومات الحياة فيه مفقودة: طرق آمنة، إنارة كافية، جسور محمية، ومركبات مرخصة تنقل التلاميذ بكرامة.
مأساة تتكرر... ومسؤولية لا تُحاسب
منقباد ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، طالما بقي الإهمال الإداري بلا مساءلة. فقد شهدت محافظات عدة خلال السنوات الماضية حوادث مشابهة، سقط فيها أطفال ونساء في الترع والمصارف بسبب تهالك المركبات وغياب الإشراف.
ورغم تكرار المآسي، لم نسمع عن محاسبة مسؤول محلي واحد، أو عن خطة واضحة لتأمين النقل المدرسي في القرى.
وكأن أرواح أبناء الفقراء تُعد “تكاليف جانبية” في حسابات السلطة التي تنشغل بالمشروعات الكبرى والدعاية الإعلامية، بينما القرى تعيش في عزلة وفقر خدماتي يزداد عمقًا.
رسالة من تحت الماء
حكاية تلاميذ منقباد ليست مجرد حادث عابر، بل صرخة ضد نظام إداري عاجز عن حماية أبنائه، وضد دولة تدّعي “الإنجاز” بينما تعجز عن تأمين طريق مدرسة في قرية فقيرة.
ما حدث في مصرف حواس هو مرآة تعكس واقعًا مريرًا، عنوانه الإهمال الحكومي المزمن، وانعدام التخطيط، والاستهتار بحياة المواطنين.
ولن تتوقف مثل هذه الكوارث ما لم تتحول وعود المسؤولين إلى أفعال، وما لم تُعد الحكومة النظر في أولوياتها التي وضعت “الواجهة” فوق الإنسان.