عبد التواب بركات

أكاديمي وكاتب مصري – دكتوراه في العلوم الزراعية

 

الأرض الزراعية في مصر ثروة قومية لا تقدر بثمن، ولا يمكن تعويضها، سواء الأراضي القديمة بالدلتا، التي تكونت عبر ملايين السنين من الطمي والغرين (الطين الخشن) الذي كان يحمله النيل من هضبة الحبشة قاطعًا آلاف الكيلومترات في الصحراء لتترسب وتستقر في الدلتا شمالي مصر، وكلفت الدولة جهودًا وأموالًا لشق قنوات الري والصرف فيها وصيانتها وعلاجها من التملح. وكذلك الأرض المستصلحة بعد بناء السد العالي في الصحراء، التي كلفت الدولة مليارات الجنيهات في سبيل تسويتها ومدها بقنوات الري والصرف، وترفيقها بالطرق والكهرباء ومحطات رفع المياه.

وتكبد الفلاحون الجهد والعرق والمال في سبيل تملكها وإجارتها واستزراعها وتعميرها وزيادة خصوبتها وسداد قيمة المرافق الملحقة بها للدولة. ويؤوي ريف مصر الزراعي نحو 58% من السكان، ويعمل فيه 28% من القوى العاملة في الوجه البحري، وأكثر من 55% في الصعيد، يرفدون الاقتصاد المصري بـ12% من الناتج القومي. ولأهميتها نص دستور سنة 2012 لأول مرة على التزام الدولة حماية الرقعة الزراعية وزيادتها. ورفع الرئيس عبد الفتاح السيسي شعار حماية الأراضي الزراعية من البناء عليها، ودأب على اتهام المصريين بالجهل بقيمتها. وقال: "خلونا نحافظ على المتاح من أرضنا ومستقبل الأجيال". ونص دستور 2014 على "تجريم" الاعتداء على الأرض الزراعية. وعدل قانون الزراعة ليشدد عقوبة البناء على الأرض الزراعية واعتبارها من الجرائم المخلة بالشرف والأمانة، التي تستوجب العزل من الوظيفة العامة وحرمان الحقوق السياسية والحبس مدة لا تقل عن سنتين ولا تزيد على خمس سنوات وغرامة لا تقل عن 500 ألف جنيه ولا تزيد على عشرة ملايين جنيه.

واعتبر السيسي البناء على الأرض الزراعية سلوك هدم للدولة وخطرًا يشبه أزمة سد النهضة، وأنه خراب لمصر، وأقسم بقوله: "والله العظيم ده خراب يا جماعة.. بشوف بلدنا بتتدمر وبتتقطع 100 حتة كل يوم.. بقينا أعدى أعاديها". وفي شهر أغسطس 2020، صرح بأن التعدي على الأرض الزراعية والبناء عليها تحديات خطيرة أمام الدولة، وإنه سيطلب من الجيش التعامل مع الأزمة "إذا اقتضى الأمر". وتوسع في هدم المباني بحجة إقامتها على أراض زراعية، وهدد بنشر قوات الجيش ومعدات هندسية في القرى كافة لهدم المباني المخالفة من دون تراجع، واستحث وزير الدفاع وقتها، محمد زكي، ووزير الداخلية، والمحافظين ومديري الأمن وكل المسؤولين الذين قالوا "آه"، وفق تعبيره، للإسراع في تنفيذ عمليات الهدم، خلال افتتاحه بعض المشاريع في محافظة الإسكندرية (شمال) يوم 29 أغسطس 2020.

 

تحويل الأراضي الزراعية إلى عقارية

ورغم إظهار السيسي في الإعلام حرصه على حماية الأراضي الزراعية من البناء عليها، فإنه يشن هجمة شرسة على تلك الأراضي ويحولها بقرارات رئاسية إلى مجتمعات عمرانية. فعلى سبيل المثال، خصص 77 ألف فدان من الأراضي الزراعية حول مدينة السادات لإنشاء مدينة سفنكس الجديدة بالقرار الرئاسي رقم 566 لسنة 2020. وصرح رئيس المدينة، نور إسماعيل، بأن هذه المساحة كانت في الأساس أراضي زراعية تتبع للهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية.

وحوّل السيسي أكثر من 70 ألف فدان من الأرض الزراعية المخصصة للهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية في منطقة الحزام الأخضر بمحافظة الجيزة، إلى القوات المسلحة وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة لاستخدامها في الاستثمار العقاري وبناء مساكن عليها. وأعطى صلاحيات لرئيس الوزراء، مصطفى مدبولي بإصدار قرارات مشابهة. وقال الأخير إن حجم الأراضي التي وقع على نزع ملكيتها بنفسه وتحويلها من النشاط الزراعي إلى العمراني بلغ 62 ألف فدان، وذلك في أثناء افتتاح السيسي الجامعة المصرية اليابانية للعلوم والتكنولوجيا بمدينة برج العرب.

ولم يخف السيسي رغبته في تحويل الأراضي الزراعية إلى عمرانية، بشرط أن تقوم القوات المسلحة بالبناء، ثم تبيع تلك المساكن بأسعار خيالية. وفي أحد لقاءاته وهو يتوعد من يبني على الأرض الزراعية قال: "لو عاوز تبني خليني أنظملك وأبنيلك أنا.. حتى لو على أرض زراعية!". وقال: "(أنا) أقبل البناء حتى على أرض زراعية، لكن يجب أن يكون هذا البناء مخططًا.. أنا بقبل إني أبني.. وحتى على أرض زراعية؟!.. أيوة طبعًا! لكن أنا أخططلك الأرض.. وأبنيلك.. حتى لو كانت على أرض زراعية".

وبذلك يكون تعهده بوقف البناء على الأرض الزراعية، في نهاية شهر سبتمبر 2021، وقطع الدعم عن المعتدي على الأراضي الزراعية بقوله: "سيتم وقف كل الدعم من خبز وتموين لأي مخالف حتى انتهاء المخالفة وإزالة المباني، وكل شيء غلط هيتشال فيكي يا مصر طالما كنت في مكاني" وفق تعبيره. ولولا ثورة الفلاحين على هذه السياسة، التي أطلق عليها الإعلام "ثورة الجلاليب"، لما توقف عن هدم البيوت المخالفة، ليس حرصًا على الأرض الزراعية، ولكن من أجل إجبار المواطن على شراء الوحدات السكنية التي تبنيها الهيئة الهندسية التابعة للقوات المسلحة.

 

المؤتمَن غير أمين

وأخيرًا، أصدرت هيئة المجتمعات العمرانية التابعة لوزارة الإسكان في مصر قرارًا بتعديل ضوابط توفيق أوضاع الأراضي ذات النشاط الزراعي، يقضي بإلغاء الغرامات المالية المقررة في حال تحويل الاستخدام إلى النشاط العمراني، مقابل التصالح من خلال التنازل عن جزء من الأرض لصالح الدولة. وينص القرار على أن تعديل النشاط من زراعي إلى عمراني يتطلب التنازل عن جزء من الأرض من المساحات الأعلى تميزًا، بدلًا من دفع غرامات مالية، وذلك بسبب ارتفاع تكاليف توصيل المرافق العامة، والتحديات المتعلقة بتنفيذ شبكات البنية التحتية. وحدد القرار التنازل عن 75% من المساحة إذا كانت لا تتجاوز خمسة أفدِنة، و65% للمساحات من 5 حتى 20 فدانًا، و50% للأراضي التي تتجاوز 20 فدانًا.

القرار على هذا النحو يقنن جرائم البناء على الأرض الزراعية. وبذلك يكون المؤتمن على الأراضي الزراعية غير أمين، و"حاميها حراميها" كما يقول المثل العامي. فلأول مرة تصنف حكومة مصرية الأراضي الزراعية على أساس قيمتها العقارية واستخداماتها العمرانية، وتطلق عبارة "الأعلى تميزًا" على جزء منها. ولأول مرة يصدر قانون يسمي البناء على الأراضي الزراعية "تحويل استخدام" بدلًا من "جريمة" الاعتداء عليها كما هو منصوص عليه في الدستور، أو "مخالفات البناء دون ترخيص" كما كان يطلق عليه في قرارات رئيس الوزراء بشأن التصالح في بعض مخالفات البناء. يكشف القرار أيضًا عن استهداف الحكومة تدمير أكبر مساحة من الأراضي الزراعية في مصر بالبناء عليها بدلًا من منع البناء من الأساس أو الاكتفاء بالمساحة المحدودة التي بُني عليها دون ترخيص، حيث يطبق القرار الجديد على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية الواقعة في مناطق غرب محافظة القاهرة، بما في ذلك مدن السادس من أكتوبر والشيخ زايد وسفنكس الجديدة في نطاق محافظة الجيزة، التي تشهد طلبًا متزايدًا في مجال التوسع العمراني ومشروعات الإسكان.

 

حلول للأزمة

من الحقائق التي يتغافَل عنها، أن الفلاح يضطر إلى ارتكاب جريمة البناء على جزء من الأرض الزراعية بسبب حرمانه الحق في تملك أراضٍ بديلة للزراعة والبناء في الظهير الصحراوي للمحافظات. وحتى توازن الحكومة بين حاجة الفلاحين لبناء مساكن جديدة تلبي حق أبنائهم في السكن المنفصل عن الأسرة وضرورة الحفاظ على الرقعة الزراعية والأمن الغذائي، فإن الحل يبدأ بتوجيه الاستثمار الوهمي في الطرق والجسور إلى التنمية الحقيقية بإنشاء مجتمعات زراعية وعمرانية متكاملة ومشتملة على المرافق الصحية والتعليمية ومصانع للمنتجات الزراعية تستوعب الشباب الخريجين وأبناء الفلاحين في هذه المجتمعات الجديدة.

كذلك فإن الحكومة مدعوة إلى مراجعة سياساتها الإسكانية، خصوصًا ما يتعلق بأسعار الوحدات التي تحتكر إنشاءها الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، التي تقوم بالبناء في مناطق غير مخطط للاستفادة من إمكاناتها الزراعية، وتطرحها بأسعار خيالية ولا تتناسب مع القدرات الشرائية لغالبية المواطنين، وبالتالي تحول دون إمكانية انتقال الشباب الخريجين وصغار المزارعين للسكن فيها.