مع تواصل أزمة سد النهضة الإثيوبي وبلوغها مراحل متقدمة دون اتفاق ملزم، تزداد المخاوف حول مستقبل الأمن القومي المصري، ويواجه نظام قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي انتقادات حادة من خبراء وسياسيين واقتصاديين، إلى جانب موجة غضب واضحة على مواقع التواصل الاجتماعي، فالنهج المتبع من النظام في إدارة الملف، إضافة إلى التدهور الاقتصادي الحاد، كلها عوامل تشكل ملامح أزمة باتت تهدد حاضر ومستقبل الدولة المصرية.
شبح العطش قادم
في تصريحات متلفزة حديثة، يوم 3 أغسطس 2025 حذر وزير الموارد المائية والري بحكومة الانقلاب العسكري المصري د. هاني سويلم من خطورة سد النهضة، مؤكدًا أن "السد يمثل تهديداً مباشراً للأمن المائي المصري" وأن مصر تعاني شحًا مائيًا حقيقيًا.
وأوضح: "بلغ نصيب الفرد من المياه سنويًا حوالي 500م³ فقط، وهو أقل من نصف خط الفقر المائي العالمي (1,000م³)، وإن استمرت الزيادة السكانية سنصل للشح المائي القادح".
أشار الوزير إلى أن السياسة الإثيوبية القائمة على التصرفات الأحادية دون اتفاق تهدد الحقوق التاريخية لمصر، وأعلنت القاهرة في ديسمبر 2023 فشل المفاوضات بعد 13 عامًا من جولات التفاوض. أما ملء السد دون تنسيق فقد بدأ منذ 2020، ما دفع مصر لاعتباره تصعيدًا خطيرًا.
أزمة ماء..
يحذر خبراء الأمن المائي من أن أزمة سد النهضة تجاوزت إطارها الفني لتصبح قضية وجودية تعصف بقطاعات الزراعة والصناعة وحتى الأمن الداخلي، إذ يسهم النيل الأزرق وحده بنحو 80% من تدفق المياه إلى مصر، وأي تحكم إثيوبي في هذا المورد يصنع حالة من الارتهان الاستراتيجي، ومع ندرة المصادر البديلة، يصبح 100 مليون مصري رهائن لسياسة أديس أبابا.
تؤكد الدراسات أن تخزين إثيوبيا لكميات كبيرة من المياه يُمكّنها من فرض شروطها على مصر في المستقبل، ما يهدد 3 مليون فدان زراعي ويعرض ملايين الأسر للتشريد.
السيسي والأمن القومي..
منذ استحواذ السيسي على الحكم في يونيو 2014، افتقرت إدارته لأزمة السد لرؤية استراتيجية فاعلة، فبينما ركز الخطاب الرسمي على التطمينات والتصريحات المتكررة بـ"عدم المساس بحق مصر المائي"، عجزت الدولة عن تحقيق اختراق دبلوماسي أو فرض ردع ملموس.
وأشار خبراء إلى أن الفوضى التي اجتاحت مصر بعد 2013 مُنحت إثيوبيا فرصتها الذهبية للإسراع في بناء السد، فيما ظل التكتيك المصري رهينة مراوغات متكررة وتنازلات صريحة في اتفاق مبادئ 2015، الذي وصفه البعض بـ"الكارثي".
يرى المحللون أن نهج المساومة والتنازلات أضاع فرص مصر لفرض اتفاق عادل مع إثيوبيا، وأن الاكتفاء بالتحذيرات الإعلامية والمخاطبات الأممية لم يكبح تصعيد أديس أبابا.
وكشف خبراء الأمن القومي أن أي تهديد لحصة مصر من النيل سيؤدي، عاجلًا أم آجلًا، لصراعات داخلية وأخطار على استقرار الدولة الهش.
ويضرب مثال بالدراسة التي أعدها الدكتور طارق عبود، والتي اعتبرت أن "سد النهضة أحد آليات الهيمنة الإقليمية وجزء من استراتيجية إضعاف مصر عبر التحكم في مصادر الحياة لمئة مليون إنسان".
كيف بدأت الكارثة؟
تعود بداية أزمة سد النهضة إلى أبريل 2011، عندما بدأت إثيوبيا في بناء السد بشكل أحادي، مستغلة حالة الضعف السياسي في مصر بعد ثورة يناير.
لكن بعد وصول عبد الفتاح السيسي إلى الحكم في 2014 بالانقلاب الذي قاده في 2013، وبتوقّعيه ما سُمي بـ"اتفاق إعلان المبادئ" في مارس 2015 مع السودان وإثيوبيا في الخرطوم، والذي وصفه عدد من الخبراء القانونيين بأنه تنازل صريح عن حقوق مصر التاريخية في مياه النيل.
هذا الاتفاق، بحسب السفير المصري السابق نادر نور الدين، "أضفى شرعية قانونية على بناء السد"، وأفقد مصر ورقة الضغط القانونية في أي مفاوضات لاحقة.
الجفاف القادم..
تشير تقارير البنك الدولي إلى أن نصيب الفرد من المياه في مصر انخفض من 1000 متر مكعب سنويًا في عام 1990 إلى أقل من 500 متر مكعب في 2024، أي تحت خط الفقر المائي بمراحل.
وبحسب تصريحات الدكتور عباس شراقي، أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة، فإن الملء الرابع والخامس لسد النهضة قد ساهما في انخفاض كبير في تدفقات النيل الأزرق.
كما أكد مركز الدراسات الإستراتيجية في لندن أن "مصر مهددة بخسارة أكثر من 2 مليون فدان زراعي خلال السنوات الخمس المقبلة إذا لم تُعالج أزمة المياه، ما يعني فقدان آلاف الوظائف وزيادة الفجوة الغذائية".
السيسي والسردية الخادعة
رغم هذه الأرقام والتحذيرات، لا يزال النظام يتبنى خطابًا تضليليًا، حيث سبق لقائد الانقلاب العسكري عبدالفتاح السيسي في عدة خطابات متلفزة، منها خطاب بتاريخ 22 سبتمبر 2019، أن قال: "اطمئنوا.. لن يُنقص أحد نقطة مياه من مصر"، وهو التصريح الذي يتناقض تمامًا مع الوضع الحالي، ومع تصريحات وزيره للري نفسه في أغسطس 2025.
هذا التناقض بين الخطاب الرسمي والواقع العملي دفع العديد من النشطاء والمحللين للتساؤل: من نصدق؟ وهل هذا التخبط انعكاس لعدم وجود استراتيجية حقيقية لإدارة الأزمة؟
تصريحات وزير الري أثارت ضجة واسعة على منصات التواصل الاجتماعي، حيث تصدر وسم #سد_النهضة و #السيسي_باع_النيل قائمة الترند في مصر.
وكتب الناشط السياسي وائل غنيم: "وزير الري بيقول إننا داخلين على شح مائي قادح، طب والرئيس قال إن محدش هيقدر ياخد نقطة مياه؟ يبقى مين بيكذب؟".
كما كتب الصحفي الاستقصائي حسام بهجت: "منذ توقيع اتفاق المبادئ، النظام يسير في خط تنازلي: لا مفاوضات حقيقية، لا ضغوط دولية، لا خطة بديلة.. فقط تصريحات فارغة".
تتفق شهادات الخبراء، وأرقام الاقتصاد، وصيحات الشارع، على أن نظام السيسي أضاع أوراق القوة المصرية في نهضة استراتيجية النيل، وأغرق البلاد في أزمات معيشية طاحنة ومخاطر جيوسياسية جسيمة، وبينما يقترب سد النهضة من التشغيل الكامل دون ضمانات، تبدو خيبات سياسات السيسي جلية في تعطش الأرض والمواطن، وانحسار الدور المصري في محيطه الحيوي، والأسئلة عن المستقبل تبقى معلقة، والإجابة يترقبها ملايين المصريين القلقين على وطنهم وماء حياتهم.