حازم سعيد :
عشت فترة من فترات حياتي بمدينة طنطا حيث جاورت الشهيدين - بإذن الله - عادل العناني وأيمن الشافعي وتزاملت مع كليهما بعديد من الجلسات والأسر الإخوانية ، وكلاهما مهندس ، واقترنت كلمة " مهندس " في اللاوعي عندي بالفهم والتحليل والاستنتاج والقدرة على البناء بأسس منطقية ، حيث كل مهنة تطبع أخلاقها وصفاتها على أصحابها .
كلا الرجلين ( من المؤمنين رجال ) طبعت مهنتهما صفاتها عليهما ، حيث فهما القضية وحللاها وأسسا حياتهما بناءاً علي هذا الفهم ، قضية خلقنا ووجودنا في هذه الحياة الدنيا والغاية التي ينبغى أن نحيا من أجلها ( الله غايتنا ) ، وأن نموت في سبيلها ، وقد حسباها - كويس قوي - ووزناها وزنة واحدة ، وركبا " مترو " الجهاد ( حيث الجهاد سبيلنا ) وقطعا التذكرة ولم يغادرا المترو إلا في المحطة النهائية " الموت في سبيل الله أسمى أمانينا " فنالا الشهادة - نسأل الله قبولها - مقبلين غير مدبرين وهما لا يحملان إلا السلم والسلام حتى لقاتليهم - لعنة الله على قاتليهم - .
كنت ولا زلت حريصاً على التواصل مع إخواني في طنطا ، وزاد من حمية التواصل اعتصام رابعة والذي وفر لي فرصة اللقاء والبقاء مع أكبر عدد من الأحباب الطنطاويين ، فكنت أعرف الأخبار منهم يومياً وكأني لا زلت بطنطا .
وكان أول ما فجعت فيه يوم فض الاعتصام ( ظهر الأربعاء ) خبر استشهاد أخي الحبيب المهندس عادل العناني ، الذي ما لبثت بعدها إلا ساعتين وعرفت بخبر أخي الحبيب الآخر المهندس أيمن الشافعي ، وكنت وقتها خارج رابعة فلم ألحق بهذا الركب الكريم - للأسف الشديد - ، مصداقاً لقوله سبحانه " ويتخذ منكم شهداء " فالله سبحانه هو الذي يتخذ ويصطفي .
حين عرفت بخبر الأخ الحبيب المهندس عادل هاتفت أحد أحبابي من طنطا ( وهو من مسئولي الإخوان بالمدينة ) على سبيل التوثق والتأكد ، فكنت أنا من أعلمه وأخبره وكان لا يعلم بالخبر ، وبعدها لما علمت بخبر المهندس أيمن هاتفته مرة أخرى فإذا بي أنا أيضاً الذي أخبره ، ولكن العجيب هنا عندما هاتفته وقلت له : خبر آخر مفجع ، فقال لي أنا متوقع صاحبه ، فقلت له : من تقصد . قال لي : قل ولو كان من أتوقعه فسأصدقك . فقلت له : إنه المهندس أيمن الشافعي ، فقال لي زميل دراستي وأخي الحبيب : والله هو دا اللى كنت متوقعه ، إنت بلغتني يا أخ ..... النهارده بالإثنين الذين كان يجول بخاطري إذا رزق أحد الشهادة فسيكون أحدهما ، وقد جمع الله لكليهما الشهادة اليوم .
المهندس عادل العناني عرفت من إخواني الطنطاويين أنه كان من أوائل من استشهد منذ السادسة أو السابعة صباحاً ، والمهندس أيمن الشافعي كان خارج رابعة ، فلما عرف بالضرب ذهب إلى رابعة الساعة الثانية إلا ربع بعد الظهر ليرزقه الله الشهادة على يد غادرٍ سفاح في الثانية تماماً ، وكأن الله سبحانه يسوقه إلى جنته ونعيمه سوقاً .
لي مع الحبيبين الغاليين مواقف لو قصصتها عليكم لعجبتم ، كيف أن رجلين مثلهما عاشا على أرضنا ، ووطأت أقدامهما التراب ، ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نحكم لمعين بالجنة لقلت أنهما رجلان من أهل الجنة عاشا بيننا طرفة عين ثم عادا إلى حيث مكانهما الطبيعي .
حين أقمت بطنطا ، كانت لي بعض المعاملات التجارية هناك وكنت أحتاج فيها إلى كتابة شيكات ، ولظروف متعلقة بنوعية المعاملات كانت السيولة تعوزني في بعض الأحيان ، وحين كنت أفكر فيمن ألجأ إليه ، كان أول من يذهب إليه خاطري هو المهندس عادل العناني ، فكنت أهاتفه : " عاوز خدمة يا هندسة " ، فيقول : أؤمر . فأقول : أريد مبلغ كذا ( وهو لا يقل عن الأربعين أو خمسين ألف جنيه منذ ست أو سبع سنوات " وأريد أن أكمل : سأسددها .... فيقاطعني : تعالى خدها ، الفلوس موجودة . فأقول : طب اعرف الظروف إيه وهسددها إزاي . فيقول : هو حد طلب منك كده ، هزعل لو كملت ، تعالى خد فلوسك .
المهندس عادل العناني أعرف أنه ينفق نفقة شهرية على بعض إخوانه وأحبابه وصالحي حيه الذي يسكن فيه بطنطا بالعشرات ، وكلاهما هو والمهندس أيمن الشافعي كانا ميسوري الحال .
لم أفتقد المهندس عادل في موقفٍ من المواقف التي فيها نصرة للحق ومواجهة بين الحق والباطل أبداً مهما كانت ظروفه ، وكان إخوانه المسئولون بطنطا يتقون به بعد الله من عنف وشدة أمن الدولة ، ويصدرونه في المشاهد التي فيها مطاردات من قبل أمن الدولة ، المهندس عادل وأخرون معدودون بطنطا كانوا يصدرون ويبرزون أيام يختبأ الناس ، وكانوا يرفعون رؤوسهم حين يحني البعض رأسه ، وكانوا يتصدرون التظاهرات التي من ضريبتها الاعتقالات والسجون حين كان يختبأ الناس .
كان أكثر قسم عمل به المهندس عادل العناني - بخلاف مسئوليته عن شعبته - هو قسم البر ، وكان كثير النفقة في أعمال البر ، ويعرفه كل أهل حيه ( الجلاء بطنطا ) وله أيادٍ بيضاء ، وعرفت من إخوانه أنه يوم جنازته سار فيها مئات الألاف من أفراد لا يعرفهم ولا يعرفونه إلا بسيرته العطرة الحسنة .
لازمت المهندس عادل حين إقامتي في طنطا في جلسات عديدة ، وكنت أحياناً أشكو له - على سبيل الاستشارة وكان حليماً كتوماً - من بعض ما يحدث بين الأزواج ، فإذا به ينهرني برفقه وأدبه المعتاد ويقول لي : يا أخ ...... والله دول لو مش أخوات مكانوش بصوا في وشنا ، احمد ربنا إنهم طايقين يعيشوا معانا .
ويستمر يوصيني بزوجتي حتى يذهب عني ما أجده ، وحتى أشعر بيني وبين نفسي أني أخطأت في حقها ، لقد كان طاهر السريرة نقي الباطن حريصاً علي بيت أخيه ويعطيه من النصائح ما يكفل استمرار بيت أخيه على السلامة والود والتراحم .
رحمك الله من أخٍ حبيب ، وتقبلك في الصالحين ، وجعل ميتتك الشريفة شهادة في سبيله ، وتقبلها ورفعك بها في الفردوس الأعلى ورزقك رفقة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم .
كما لازمت المهندس عادل فقد لازمت المهندس أيمن الشافعي ، الذي كان كريم النفس عفيفاً سمحاً سهلاً ليناً بشوشاً بسيطاً - رغم ثرائه ومكانته الاجتماعية - إلا أنك تراه وسط إخوانه وكأنه أقلهم وكان أبسطهم وأسهلهم وأحسنهم عشرة .
المهندس أيمن الشافعي كان مسئولاً لمنطقة كاملة في طنطا ( أربع شعب ) وفرغ منها ليصبح نائباً لمسئول حزب الحرية والعدالة بالغربية ، يحبه كل من عرفه من الإخوان ومن غير الإخوان .
حكا لي إخوانه بطنطا أنه في جنازته مشى فيها مئات الآلاف بطنطا ثم بقريته التابعة لكفر الزيات بالغربية ، وكان من ضمن مئات الألاف ، عشرات ومئات من العمال والصنايعية - وكان مهندس مقاولات - الذين عملوا تحت يده وفي شركته ، وكانوا كلهم يبكون رجلاً كريماً حسن العشرة سهلاً ليناً هيناً بسيطاً .
حين لازمته في في طنطا كان يهاتفني - لارتباطي وقتها ببعض أعمال البر - فأذهب إليه ، فيقول لي خذ هذه العشرة آلاف لفقراء الحي الفلاني ، وبعدها بأيام : خذ هذه الستة آلاف لفقراء الحي الفلاني ، وبعدها بأيام : خذ هذه ( خمسة عشر ألف ) لفقراء الحي الفلاني . بس لي شرط : تستر علي ولا تحدث بها أحداً ، هكذا كان دأبه وعادته .... سامحني أخي الحبيب : أفشيت الآن سرك الذي لم أحسب أن أحداً يعلمه سوى الله سبحانه وملائكته الذين سجلوها لك .. أسأل الله لك أن يتقبلها منك خالصة لوجهه الكريم .
كنت رفيقاً له في أحد لجان الصلح ، وكان رئيس اللجنة الشيخ السيد عسكر العلامة الإسلامي البارز ، وكنت مع أخي الحبيب المهندس أيمن عضواً باللجنة ، مهما حدثتكم عن رفقه وطيب نفسه وحسن سريرته ورغبته في الإصلاح وسعيه فيه وبذله في السر وبساطته وفقهه للواقع فلن أوفيه حقه ، لقد كان يجود بما في يده مقابل أن يعفوا الأخوان أو يصفحا وأن تنتهي الخصومة بالحب والإخاء .
يعرف عني حبيبي أني أحد كتاب المقالات بالنافذة ، وكان يحب أن يقرأ لي وكلما قابلني عاتبني على طول مقالتي ، وكنت أعتذر له بأن هذا هو أسلوبي وهذه هي طريقتي ، وفرغ نفسه لي عدة مرات كلما ساقته سفرياته إلى حيث أقيم ثم يطلب مني مسودة آخر مقالة سواء نشرت أم لم تنشر ، ويجلس يهذبها لي فيختصرها إلى الخمس أو السدس ، ويقول لي : يا أخ ..... الناس مش فاضية تقرا ، اختصرها زي ما قلت لك كده ، فأقول له : كده مش هقدر أنا مش حاسس بالاختصار دا إني عبرت عن الفكرة ، فيضحك ويقول لي هتخليني مقراش لك ... ثم لا يملك نفسه ويقرأ لي لأنه كان يحبني ، بل كان يتغزل في وفي ( شياكتي ) كلما قابلني ، هكذا كان مجاملاً رقيقاً عطوفاً حنوناً ، رحمه الله .
أخي الحبيب وصديقي العزيز ورفيق درب عطوف شفوق حنون : سامحني طالت المقالة كما كنت لا تحب ، ولكن هذا أسلوبي يا أخي ويا حبيبي .. وكنت لا أخاف من تهديدك حين كنت تتوعدني ألا تقرأ لي وكنت أعرف أنك لن تستطيع ، وكنت لا تستطيع .
الآن أكتبها بدمع عيني - حقيقة لا مجازاً - وأنا أعرف أنك لن تقرأها ، ولكنها أبسط حقك يا أخي ويا حبيبي ، أعلمك بها وأعلم العالم كله أن حياتي بعدك وبعد العناني قد توقفت ، أتحرك منذ شهرٍ كامل كما الآلة بالضبط .
لا أشعر لا بأكل ولا شرب ولا مقام ، وتغلبني عيني كلما تذكرتك في أي وقت وفي أي أوان ، لم أشعر بهذا الشعور إلا بعد وفاة أبي ثم بعد وفاة أمي واستمر معي لأيام - أو أسابيع - ولكنه معكما يا حبيبي امتد ، ويبدو أنه سيمتد ، فلقد علمتمونا كيف هو الحب بين الإخوان ، وها أنا ذا بعدكما أعاني من لوعة الفقد ... إنه فقد الأحباب والإخوان ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
رحمك الله من أخٍ حبيب ، وتقبلك في الصالحين ، وجعل ميتتك الشريفة شهادة في سبيله ، وتقبلها ورفعك بها في الفردوس الأعلى ورزقك رفقة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم .
إخواني الشهداء الكرام العظام ، لقد ابتلينا بفقدكم ، وعزاؤنا أنكم - إن شاء الله - بجنة عرضها السموات والأراضين ، وأملنا أنكم ارتحتم من هم كبير بهذه الحياة الدنيا ، ورجاؤنا من الله أن يثبتنا بعدكم ، وأن يلحقنا بكم على خير .
وأما قاتلوكم من أمثال الخائن السيسي ، فلا أدري بأي وجه يمكن أن يلقى الله وقد ارتكب جناية سفك دمائكم الطاهرة ، حقيقة لا أعرف كيف سيلقى الله مثل هذا الرجس النجس وقد أسالت يده النجسة دماءكم الطاهرة ، وأمثالكم من الألاف النقية الزكية ، رحمكم الله جميعاً وجعل دماءكم لعنة على قاتليكم .. اللهم آمين .. اللهم آمين .. اللهم آمين .
-------------