وصول الطائرة الرئاسية الجديدة من طراز بوينغ 747-830 إلى مطار القاهرة، قادمة من هامبورغ لتحل محل الطائرة الرئاسية الحالية من طراز إيرباص A340، فتح بابًا واسعًا للنقاش حول أولويات الإنفاق العام في مصر، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها المواطنون.
هذه الطائرة التي تشير تقديرات عديدة إلى أن قيمتها تتراوح بين 400 و500 مليون دولار، تأتي فوق صفقات سابقة لطائرات رئاسية فرنسية الصنع، بما يجعل ملف الطيران الرئاسي عنوانًا صارخًا للفجوة بين واقع السلطة وواقع الشعب. في بلد يعاني فيه ملايين من الفقر والجوع وتدهور الخدمات الأساسية، يصبح السؤال المركزي: ماذا كان يمكن أن يصنع هذا المبلغ لو تم توجيهه لصالح المصريين بدلًا من اقتنائه كرمز جديد لرفاهية السلطة؟
أولًا: قصة طائرة بـ500 مليون دولار
تعود قصة الطائرة الرئاسية الجديدة إلى عام 2021 حين كشفت تقارير صحفية ألمانية عن طلب مصر شراء طائرة من طراز بوينغ 747-830 من شركة لوفتهانزا لتشغيلها كطائرة رئاسية. هذه الطائرة كانت ضمن سرب صُنِّع عام 2011 لصالح الشركة الألمانية، لكن جرى الاستغناء عن هذه الطائرة تحديدًا بسبب استخدامها بكثافة في اختبارات بوينغ. ورغم أن الطراز نفسه غير منتشر عالميًا بسبب استهلاكه العالي للوقود وعدم ملاءمته الاقتصادية للرحلات التجارية، إلا أنه حظي باهتمام الرئاسة المصرية لاستخدامه كطائرة فاخرة للرئيس. بالتوازي، كانت مصر قد أبرمت قبل ذلك صفقة أخرى بقيمة تقارب 300 مليون دولار مع شركة “داسو” الفرنسية لشراء أربع طائرات من طراز فالكون لصالح رئاسة الجمهورية، ليصبح مجموع ما أُنفق على أسطول الطيران الرئاسي في حدود مليار دولار، في وقت يعاني فيه الاقتصاد من أزمات ديون وتضخم وارتفاع غير مسبوق في كلفة المعيشة.
ثانيًا: مقارنة تاريخية مع رؤساء سابقين
ما يضاعف من حدة الانتقادات أن هذا الحجم من الإنفاق على الطائرات الرئاسية لا يجد سابقة مماثلة في التاريخ المصري الحديث. فالرئيس جمال عبد الناصر لم يمتلك طائرة رئاسية خاصة، واكتفى باستئجار طائرات عند الحاجة للسفر الخارجي. أما الرئيس أنور السادات فقد حصل على طائرتين رئاسيتين هدية من الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، دون تحميل خزينة الدولة تكلفة شراء طائرات جديدة. وكان الرئيس حسني مبارك أول من اشترى طائرة رئاسية من طراز إيرباص عام 1995، وهي الطائرة التي استُخدمت لنحو ثلاثة عقود. مقارنة هذا المسار التاريخي بما يجري اليوم – من تحديث أسطول كامل وبصفقات بمئات الملايين من الدولارات – تبرز حجم القفزة في الإنفاق الشخصي/البروتوكولي لصالح مؤسسة الرئاسة، على حساب أولويات أكثر إلحاحًا تمس حياة ملايين الفقراء.
ثالثًا: ماذا كان يمكن أن تفعل نصف مليار دولار للمصريين؟
تقدَّر قيمة الطائرة الجديدة بحوالي 500 مليون دولار، أي ما يقارب 25 مليار جنيه وفق أسعار الصرف الحالية تقريبًا. هذا الرقم الهائل كان يمكن أن يصنع فارقًا حقيقيًا في حياة المواطنين لو وُجِّه لقطاعات التعليم والصحة والحماية الاجتماعية. بهذا المبلغ يمكن تمويل بناء حوالي 25 ألف فصل دراسي قادر على استيعاب أكثر من نصف مليون طالب في بلد يعاني من كثافة طلابية واكتظاظ شديد في الفصول. كما يمكن إنشاء أو تطوير نحو 30 مستشفى مركزي في المحافظات، في وقت تحتل فيه مصر موقعًا متأخرًا عالميًا في عدد أسرة المستشفيات قياسًا بعدد السكان. وعلى صعيد العدالة الاجتماعية، كان يمكن لهذا المبلغ أن يوفّر دعمًا نقديًا لنحو مليوني أسرة فقيرة لمدة عام كامل بقيمة ألف جنيه شهريًا للأسرة، في بلد تشير تقديرات رسمية إلى أن حوالي 35٪ من سكانه يعيشون تحت خط الفقر، بينما تتحدث منظمات دولية عن تجويع ما يقارب 11 مليون مواطن. كل هذه البدائل تضع شراء الطائرة في مواجهة مباشرة مع سؤال الأولويات ومعنى إدارة المال العام.
رابعًا: غياب المحاسبة وتغوّل السلطة
السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا يختار الرئيس إنفاق ما يقارب مليار دولار على طائرات رئاسية في ظل هذه الظروف؟ الإجابة ترتبط ببنية السلطة ومناخ غياب المحاسبة. فإبعاد رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات ومحاكمته استثنائيًا، بعد كشفه عن تقديرات واسعة لحجم الفساد، شكّل رسالة واضحة بأن الرقابة على الإنفاق العام أصبحت عمليًا تحت السيطرة. ثم جاءت تعديلات قانون السلطة القضائية عام 2017، وتعديلات الدستور عام 2019، لتضع الرئيس على قمة هرم السلطة القضائية وتحوّل كبار القضاة إلى تابعين للسلطة التنفيذية، بما يضعف إمكان الرقابة الحقيقية أو المحاسبة القضائية. إلى جانب ذلك، جرى توسيع نفوذ المؤسسة العسكرية اقتصاديًا حتى تحولت – وفق منتقدين – إلى ما يشبه شركة مقاولات ضخمة تبحث عن المشروعات والعقود. كما أُنفقت مبالغ ضخمة للسيطرة على الإعلام وتحويله إلى أداة دعاية للهجوم على المعارضين وتبرير السياسات الرسمية، بدلًا من قيامه بدور رقابي حقيقي. في هذا السياق، تبدو صفقة الطائرة الرئاسية مجرد حلقة في سلسلة من القرارات التي تعكس غياب التوازن بين السلطة والرقابة، وبين احتياجات الحاكم وحقوق المحكومين.
خامسًا: الطائرة كرمز لعبث الأولويات
أبعد من كونها طائرة جديدة، تتحول هذه الصفقة إلى رمز لسنوات من العبث السياسي والاقتصادي، باعتبارها تجسيدًا لفلسفة حكم تضع صورة السلطة ورفاهيتها في المقدمة، بينما تُرحَّل أزمات الفقر والجوع والصحة والتعليم إلى الهامش أو إلى المستقبل المجهول. في بلد تزداد فيه معدلات الفقر، ويتآكل فيه دخل الطبقة الوسطى، ويتراجع مستوى الخدمات الأساسية، تبدو الطائرة الرئاسية ترفًا مستفزًا ورسالة خاطئة للمجتمع. هذه الواقعة فرصة لتذكير رأس السلطة بأن الشرعية لا تُبنى بطائرات فاخرة ولا بمواكب ضخمة، بل بتحسين حياة الناس الفعلية، وبإعادة ترتيب الأولويات لتصبح مكافحة الفقر والجوع وتطوير الصحة والتعليم في مقدمة جدول الأعمال. كما أنها فرصة للشارع والنخب السياسية والحقوقية للتساؤل عن جدوى استمرار هذا النمط من الإنفاق غير الخاضع للنقاش العام أو الرقابة المستقلة.
واخيرا فان قصة الطائرة الرئاسية الجديدة ليست مجرد تفاصيل تقنية عن نوع من الطائرات أو شركة مصنِّعة، بل مرآة تعكس الفجوة العميقة بين سلطة تمتلك رفاهية الإنفاق بمئات الملايين، وشعب تُطالبه هذه السلطة بالصبر على الغلاء والتقشف وشحّ الموارد. نصف مليار دولار كان يمكن أن يتحول إلى مدارس ومستشفيات ودعم للفقراء، لكنه اختُزل في طائرة واحدة تضاف إلى أسطول رئاسي متخم. هذه المفارقة تلخّص جوهر الأزمة: دولة تتحدث عن “إخراج المصريين من الفقر والعوز” بينما سياساتها الفعلية تدفع بملايين إلى حافة الجوع، وتغرق في مشروعات استعراضية لا تعكس أولويات أغلبية المواطنين. إعادة تصحيح هذه المعادلة تبدأ بالاعتراف بأن المال العام أمانة، وأن كرامة وحياة الناس أهم بما لا يقاس من أي طائرة رئاسية جديدة.

