كشفت مجموعة موانئ أبوظبي، اليوم الاثنين، نيتها إطلاق عرض شراء إلزامي للاستحواذ على حصة إضافية في شركة "الإسكندرية لتداول الحاويات والبضائع"، في خطوة تمنحها السيطرة الكاملة على واحدة من أهم الشركات المصرية المُشغّلة لمحطات حاويات استراتيجية على البحر المتوسط.

 

ويأتي هذا الإعلان بعد أسابيع من استحواذ الشركة الإماراتية على حصة سعودية بلغت 19.3%، في إطار موجة خصخصة متسارعة يشرع في تنفيذها قائد الانقلاب العسكري عبدالفتاح السيسي منذ اندلاع أزمة النقد الأجنبي، والتي يتهمه خبراء اقتصاديون بتوظيفها لبيع الأصول الوطنية بأسعار مُتدنية، دون اعتبار للسيادة الاقتصادية أو المصالح الوطنية طويلة الأمد.

 

وبينما تُصوّر الحكومة هذه الصفقات باعتبارها ضرورية لجلب العملة الصعبة وتحفيز الاستثمار، فإن واقع الأرقام والظروف المحيطة بها يُظهر أن الدولة تبيع بأقل من القيمة الحقيقية، وتُفرّط في شركات مربحة ومُدرّة للدخل، في صفقات يصفها مراقبون بأنها "هدايا مجانية" لحلفاء النظام الإقليميين، مقابل دعمهم السياسي والمالي لنظام حكم يعاني من أزمات اقتصادية وشرعية متراكمة.

 

بيع بالخسارة: سعر السهم بخصم 11.5%

 

حدّدت موانئ أبوظبي سعر العرض عند 22.99 جنيه للسهم، وهو ما يمثل خصمًا بنسبة 11.5% عن سعر إغلاق السهم في جلسة الأحد الماضي في بورصة مصر، وفقًا لـ"الشرق بلومبرج". ويُثير هذا الخصم تساؤلات حادة حول معايير التسعير التي تعتمدها الحكومة في بيع حصص استراتيجية، خاصة أن "الإسكندرية للحاويات" شركة مربحة ومُدرّة للنقد، حققت إيرادات بلغت 8.37 مليار جنيه (168 مليون دولار) في العام المالي 2024-2025، بهامش أرباح قبل الفوائد والضرائب والإهلاك يصل إلى 64%.

 

الخبير الاقتصادي أحمد السيد النجار يقول إن "بيع حصص في شركة بهذا المستوى من الربحية والاستقرار المالي، وبخصم على سعر السوق، يعكس حالة من الاستعجال غير المبرر اقتصاديًا، ويشي بأن القرار سياسي بالدرجة الأولى، وليس اقتصاديًا". ويضيف النجار أن "الدولة تبيع الدجاجة التي تبيض ذهبًا مقابل سيولة مؤقتة، بدلاً من الاعتماد على عائداتها المستمرة".

 

وبحسب بيان موانئ أبوظبي، فإن الشركة تتمتع بصافي نقدي يبلغ 9.7 مليار جنيه (195 مليون دولار) حتى يونيو 2025، وتدفق نقدي من الأنشطة التشغيلية بلغ 4.93 مليار جنيه (99 مليون دولار)، ما يجعلها واحدة من أكثر الشركات استقرارًا في محفظة الأصول العامة المصرية.

 

موجة تفريط مستمرة: من السعودية إلى الإمارات

 

ليست هذه المرة الأولى التي تشهد فيها "الإسكندرية للحاويات" عمليات استحواذ أجنبية في السنوات الأخيرة. فقد شهدت الشركة استحواذين سعوديًا وإماراتيًا سابقًا، قبل أن تستحوذ "Black Caspian Logistics Holding"، التابعة لموانئ أبوظبي، على الحصة السعودية البالغة 19.3% في نوفمبر الماضي. والآن، تسعى المجموعة الإماراتية لاستكمال السيطرة عبر عرض شراء إلزامي يستهدف رفع حصتها إلى مستوى يمنحها الهيمنة الكاملة على إدارة الشركة واتخاذ القرار.

 

ووفقًا لهيكل الملكية المنشور على موقع الشركة، تمتلك القابضة للنقل البحري والبري حصة 35.4%، وهيئة ميناء الإسكندرية 7.6%، بينما تُشير موانئ أبوظبي في بيانها إلى أن "المساهمين من الحكومة المصرية سيحتفظون بحصصهم الحالية"، وهو ما يعني أن العرض يستهدف بشكل أساسي المساهمين من القطاع الخاص والأفراد، في محاولة لتجاوز عتبة الـ51% التي تمنح السيطرة الفعلية.

 

الباحث الاقتصادي عمرو عادلي يرى أن "هذه الموجة من الخصخصة لا تعكس رؤية اقتصادية واضحة، بل هي استجابة لضغوط سياسية ومالية فورية". ويضيف عادلي: "الحكومة تبيع الأصول الرابحة لسد فجوة الموازنة وإرضاء الشركاء الإقليميين، لكنها بذلك تُضعف قاعدتها الإنتاجية وتُفقد الدولة مصادر دخل مستدامة في المستقبل".

 

سيادة اقتصادية مُهددة ومحطات استراتيجية تحت السيطرة الأجنبية

 

تمتلك "الإسكندرية للحاويات" محطتين استراتيجيتين في ميناءي الإسكندرية والدخيلة، بطول أرصفة يصل إلى 1.6 كيلومتر، وسعة إجمالية تبلغ 1.5 مليون حاوية نمطية. وتُعد هذه المحطات بوابة حيوية لحركة التجارة الدولية عبر البحر المتوسط، حيث يمر عبر قناة السويس ما بين 12-15% من حركة التجارة العالمية سنويًا، وفقًا لبيانات المجلس الأطلسي، بما يمثل نحو 30% من حركة الحاويات عالميًا.

 

ويثير انتقال السيطرة على هذه المحطات إلى شركة أجنبية مخاوف جدية بشأن السيادة الاقتصادية والقدرة على التحكم في منافذ تجارية حيوية. الخبير الاقتصادي وائل جمال يُحذّر من أن "تسليم محطات استراتيجية كهذه لشركات أجنبية يعني فقدان القدرة على التحكم في تسعير الخدمات، وفي الأولويات التشغيلية، وفي القرارات المتعلقة بالأمن الاقتصادي الوطني". ويضيف جمال: "في أوقات الأزمات الدولية أو النزاعات الإقليمية، قد تجد مصر نفسها عاجزة عن التحكم في منافذها الخاصة".

 

وبينما يُروّج بيان موانئ أبوظبي لـ"وفورات تشغيلية" و"حلول مبتكرة"، فإن التجربة التاريخية تُظهر أن الشركات الأجنبية تُعطي الأولوية لعوائدها المالية وليس للتنمية المحلية. الاقتصادية هبة الليثي تشير إلى أن "الخطاب الترويجي حول التكنولوجيا والكفاءة يُخفي حقيقة أن هذه الاستثمارات تهدف أساسًا إلى تحقيق أرباح ضخمة للمستثمرين الأجانب، بينما تخسر الدولة عوائد طويلة الأمد كانت ستُسهم في تمويل التنمية والخدمات العامة".

 

وتُشير الليثي إلى أن "الصفقة تتم في ظل غياب شفافية كاملة حول الشروط التفصيلية، وحجم الاستثمارات المستقبلية الملزمة، وآليات حماية العمالة المصرية، وضمانات عدم رفع أسعار الخدمات على المستوردين والمصدرين المصريين".

 

ختما فإنه يُمثل إعلان موانئ أبوظبي حلقة جديدة في سلسلة طويلة من صفقات الخصخصة المثيرة للجدل، والتي تُباع فيها الأصول العامة المصرية بأسعار مُخفّضة ودون ضمانات واضحة للمصلحة الوطنية. وبينما يحتفي النظام بجلب "استثمارات أجنبية"، فإن الواقع يُشير إلى أن الدولة تبيع مستقبلها الاقتصادي مقابل سيولة مؤقتة، وتُسلّم مفاتيح البنية التحتية الاستراتيجية لشركات أجنبية، في صفقات يصفها خبراء بأنها تُضعف السيادة وتُقوّض فرص التنمية المستدامة.