في شهادة وفاة رسمية للمستقبل الاقتصادي المصري، كشفت أحدث بيانات معهد التمويل الدولي عن قفزة مرعبة في حجم الديون الحكومية، لتتجاوز حاجز الـ 300 مليار دولار لأول مرة في تاريخ البلاد. الأرقام الصادمة، التي تشير إلى ارتفاع الدين المحلي والخارجي بنسبة 8.2% في ثلاثة أشهر فقط (الربع الثالث من العام الجاري)، ليست مجرد مؤشرات مالية، بل هي "صحيفة سوابق" لنظام أدمن الاقتراض، وقرر رهن سيادة الدولة ومقدرات أجيالها القادمة للدائنين، مقابل استمرار بقائه وتمويل مشروعاته العبثية التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
هذا الارتفاع الجنوني من 279.7 مليار دولار إلى 302.7 مليار دولار في ربع عام واحد، يعني أن حكومة الانقلاب تقترض بمعدلات تفوق قدرة الدولة على السداد، في سياسة "انتحار مالي" ممنهجة، تتجاهل كل التحذيرات الدولية والمحلية، وتسير بالبلاد بخطى ثابتة نحو الهاوية اللبنانية، تاركة المواطن المطحون يدفع فاتورة هذا الفشل من لحمه وقوت يومه.
قفزة "الموت".. 23 مليار دولار ديون في 90 يوماً!
لغة الأرقام لا تكذب ولا تتجمل. أن تقترض الحكومة ما يقرب من 23 مليار دولار في 90 يومًا فقط، فهذا يعني أنها فقدت السيطرة تمامًا على الموازنة العامة، وأنها تعيش حالة من "السعار الاقتراضي" لسد العجز المتفاقم. هذه الزيادة القياسية (8.2%) في فترة وجيزة تكشف كذب السردية الرسمية التي تتحدث عن "التعافي" أو "تحسن المؤشرات". الحقيقة المرة هي أن النظام يغرق، ويحاول النجاة عبر إغراق الدولة بمزيد من الديون، محولًا الاقتصاد المصري إلى "بالونة ديون" قابلة للانفجار في أي لحظة.
إن تجاوز عتبة الـ 300 مليار دولار يضع مصر في منطقة الخطر القصوى عالميًا، ويعني أن كل مورد يدخل إلى خزينة الدولة – سواء من قناة السويس أو تحويلات المصريين – سيذهب مباشرة إلى جيوب الدائنين لسداد الفوائد، بينما سيعاني الشعب من مزيد من التقشف، رفع الدعم، وانهيار الخدمات الأساسية.
سياسة "الأرض المحروقة".. بيع الأصول والاقتراض
ما يثير الرعب ليس فقط حجم الدين، بل كيفية سداده. في ظل عجز القطاعات الإنتاجية عن النمو الحقيقي، لا يملك النظام سوى وسيلتين لسداد هذه الفواتير الفلكية: إما مزيد من الاقتراض لتدوير الديون القديمة (تلبيس طواقي)، أو بيع أصول الدولة التاريخية والاستراتيجية في مزادات علنية تحت مسمى "الطروحات".
لقد تحولت مصر في عهد السيسي من دولة منتجة ورائدة إلى دولة "سمسرة"، تبيع أراضيها ومصانعها وموانئها لتسديد ديون أنفقت على قصور رئاسية، وكباري لا لزوم لها، وعاصمة إدارية في الصحراء لا يسكنها إلا الأشباح والمنتفعون. إنها سياسة "الأرض المحروقة" اقتصاديًا؛ حيث يتم تجريف الدولة من ممتلكاتها وتركها هيكلاً عظميًا مكبلاً بقيود البنك الدولي وصندوق النقد.
المواطن يدفع الثمن.. فقر وغلاء وخراب ديار
النتيجة المباشرة لهذا الفشل المالي يدفعها المواطن البسيط فورًا. ارتفاع الدين يعني بالضرورة تدهور قيمة العملة المحلية، وموجات تضخم لا ترحم تأكل الأخضر واليابس. الحكومة التي تقترض بالدولار ستضطر لجمع الضرائب والرسوم من المواطنين بالجنيه، ثم تحويلها لدولار بسعر مرتفع، ما يعني سحق الطبقة الوسطى وإفقار الفقراء أكثر.
إن الـ 302.7 مليار دولار ليست أرقامًا في دفاتر الحكومة، بل هي قيود تُفرض على كل طفل يولد اليوم، وديون سيظل أحفادنا يسددونها لعقود قادمة. لقد سرق هذا النظام الماضي والحاضر، والآن يسطو بوضوح على المستقبل.
خاتمة: نهاية الطريق المسدود
تقرير معهد التمويل الدولي هو جرس إنذار أخير قبل الارتطام الكبير. استمرار هذا النهج الجنوني في الاقتراض لن يؤدي إلا إلى إفلاس الدولة وعجزها عن الوفاء بالتزاماتها (Default)، وهو السيناريو الكابوسي الذي يحاول النظام تأجيله يومًا بيوم.
مصر اليوم مختطفة من قبل عقلية لا ترى في الاقتصاد سوى "جباية وقروض"، ولا ترى في الشعب سوى "دافع للفاتورة". إن لم يتم وقف هذه المحرقة المالية ومحاسبة المسؤولين عن توريط البلاد في هذا المستنقع، فإن القادم سيكون أسوأ من كل التوقعات، وستتحول مصر إلى دولة فاشلة تعيش على المعونات وتبيع سيادتها لمن يدفع أكثر.

