يناقش الدكتور العلامة الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، ظاهرة التطرف باعتبارها قضية مركبة لا يمكن اختزالها في سبب واحد، منتقداً النظرات الأحادية للمدارس الفكرية المختلفة؛ فالمدرسة النفسية تحصرها في العقد الباطنة، والاجتماعية في تأثير البيئة، والمادية في الدوافع الاقتصادية. في المقابل، يتبنى النص "النظرة الشاملة المتوازنة" التي ترى أن التطرف نتاج تداخل معقد لعوامل دينية، سياسية، اجتماعية، اقتصادية، ونفسية، تتفاوت في تأثيرها من شخص لآخر.
ويشير العلامة إلى أن بذور التطرف قد تكمن في ذات الفرد أو محيطه الأسري، لكنه يركز بشكل خاص على دور التناقضات المجتمعية الصارخة بين العقيدة والسلوك، والواقع والمأمول، وهي تناقضات قد لا يحتملها الشباب طويلاً. كما يحمّل النص فساد الحكم وطغيان الحكام وانفصال السلطان عن القرآن مسؤولية كبرى في تعميق هذه الظاهرة، مما يجعل الدين والدولة في مسارين متنافرين، ويخلق بيئة خصبة لنمو التطرف كرد فعل على هذا الانفصال والظلم.
النظرة المتكاملة إلى أسباب التطرف
والحقيقة أن سبب هـذا التطرف ليس شيئا واحدا ولكن أسبابه متعددة متنوعة، وليس من الإنصاف للحقائق أن نركز على سبب واحد، ونغض الطرف عن الأسباب الأخرى، كما يصنع عادة كل منتم إلى مدرسة معينة.
رؤى المدارس الأحادية لأسباب التطرف
فأصحاب المدرسة النفسية يرجعون كل تصرف إلى أسباب نفسية خالصة، كثيرا ما تكمن في العقل الباطن أو اللاشعور، وبخاصة مدرسة التحليل النفسي.
والمدرسة الاجتماعية ترد كل شيء إلى تأثير المجتمع وأوضاعه وتقاليده، وما المرء إلا دمية يحرك خيوطها المجتمع كما يقول "دور كايم" !
وأنصار المادية التاريخية لا يقيمون وزنا إلا للاعتبارات المادية، والدوافع الاقتصادية، فهي التي تصنع الأحداث، وتغير التاريخ.
منهج النظرة الشاملة المتوازنة
وأصحاب النظرة الشاملة المتوازنة يعترفون بأن الأسباب متشابكة ومتداخلة، وكلها تعمل بأقدار متفاوتة، مؤثرة آثارا مختلفة، قد يقوى أثرها في شخص ويضعف في آخر، ولكنها جميعا لها في النهاية أثرها الذي لا يجحد.
فلا ينبغي لنا أن نقف عند سبب واحد، يبرز أمامنا، ويطغى على غيره من الأسباب. فالواقع أن الظاهرة التي بين أيدينا ظاهرة مركبة، معقدة، وأسبابها كثيرة ومتنوعة، ومتداخلة، بعضها قريب، وبعضها بعيد، بعضها مباشر، [ ص: 60 ] وبعضها غير مباشر، بعضها ماثل للعين، طاف على السطح، وبعضها غائص في الأعماق.
تصنيف أسباب الظاهرة
من هـذه الأسباب ما هـو ديني، وما هـو سياسي، منها ما هـو اجتماعي، وما هـو اقتصادي، ومنها ما هـو نفسي، وما هـو فكري، وما هـو خليط من هـذا كله أو بعضه.
قد يكمن سبب هـذه الظاهرة - أو السبب الأول لها - في داخل الشخص المتطرف نفسه، وقد يكون السبب أو بعضه عند البحث، داخل أسرته، عند أبويه وإخوته وعلاقاته بهم، وعلاقاتهم بعضهم ببعض.
دور تناقضات المجتمع
وقد يرجع السبب عند التحليل والتعمق إلى المجتمع ذاته، وما يحمل في طيه من تناقضات صارخة: بين العقيدة والسلوك.. بين الواجب والواقع.. بين الدين والسياسة.. بين القول والعمل.. بين الآمال والمنجزات.. بين ما شرعه الله وما وضع البشر.
ومثل هـذه المتناقضات إن احتملها الشيوخ لا يحتملها الشباب، وإن احتملها بعضهم، لا يحتملها كلهم، وإن احتملوها بعض الوقت، لن يحتملوها كل الوقت.
الفساد السياسي وأثره
وقد يعود السبب إلى فساد الحكم، وطغيان الحكام، وجريهم وراء شهواتهم، وتفريطهم في حقوق شعوبهم. واتباعهم أهواء بطانة السوء في الداخل، والحاقدين على الإسلام في الخارج، مما جعل القرآن والسلطان، أو الدين والدولة في خطين متوازيين لا يلتقيان.

