في الوقت الذي تروج فيه الأذرع الإعلامية لنظام الانقلاب العسكري في مصر لما تسميه "الجمهورية الجديدة"، يعيش المصريون واقعاً مغايراً تماماً تسوده القمع الممنهج وسياسة تكميم الأفواه. فمع إسدال الستار على ما سُمي بـ"الانتخابات البرلمانية"، التي وصفها مراقبون بأنها الأسوأ في تاريخ التزوير السياسي، شنت الأجهزة الأمنية موجة انتقامية واسعة النطاق طالت محافظات عدة، مستهدفة كل صوت تجرأ على رفض التزوير أو المطالبة بالحقوق المسلوبة.
تتزامن هذه الهجمة الشرسة مع الإعلان عن حملة "أمنية رقابية" بدعوى مكافحة الفساد، وهي الخطوة التي يقرؤها الخبراء كمحاولة بائسة لتجميل وجه النظام القبيح، أو تصفية حسابات داخلية بين أجنحة السلطة، بينما يقبع الآلاف في السجون يواجهون الموت البطيء، خاصة في سجن الوادي الجديد سيئ السمعة، وسط تواطؤ قضائي يحيل ساحات المحاكم إلى غرف لتمديد المظالم لا لتحقيق العدالة.
مسرحية "محاربة الفساد": قناع جديد لقبضة المخابرات
في محاولة مفضوحة لصرف الأنظار عن الفشل الاقتصادي والسياسي، بدأت الآلة الدعائية للنظام التمهيد لحملة أمنية موسعة من المقرر انطلاقها الأسبوع المقبل، تشارك فيها المخابرات العامة والرقابة الإدارية والأمن الوطني، تحت ذريعة "اقتلاع الفساد من جذوره". إلا أن المتابعين للشأن المصري يدركون أن هذه التحركات، التي تأتي بتعليمات رئاسية مباشرة، لا تعدو كونها أداة جديدة لفرض المزيد من السيطرة الأمنية وتصفية الحسابات داخل دولاب الدولة المترهل.
إن إقحام "المخابرات العامة" و"الأمن الوطني" في ملفات إدارية يؤكد عسكرة الجهاز الإداري بالكامل، وتحويل تهم "الفساد" إلى شماعة جاهزة للإطاحة بأي صوت معارض أو غير مرغوب فيه داخل المؤسسات، في حين يظل الفساد الأكبر المتمثل في إهدار مقدرات الدولة واحتكار الاقتصاد بمنأى عن أي محاسبة. إنه "فساد يحارب فساداً"، في حلقة مفرغة يدفع ثمنها المواطن البسيط الذي ينتظر إصلاحاً حقيقياً فلا يجد سوى المزيد من القمع والقبضة الحديدية.
ما بعد "مسرحية الانتخابات": اعتقالات انتقامية في المحافظات
لم يكد ينتهي مشهد التزوير الانتخابي حتى كشر النظام عن أنيابه، مطلقاً العنان لأجهزته الأمنية لشن حملات دهم واعتقال في محافظات الفيوم، أسيوط، سوهاج، والبحيرة. هذه الحملات لم تستهدف جنائيين، بل استهدفت مواطنين شاركوا في احتجاجات سلمية رفضاً لتزوير إرادتهم.
وفي مدينة العاشر من رمضان، تجسد القمع في أبشع صوره، حيث أسفرت الحملة الأمنية عن اعتقال الشابين هشام الكردي هاشم ومصطفى محمد مصطفى، ليقرر القضاء المسيس حبسهما 15 يوماً على ذمة تحقيقات ملفقة، وإيداعهما قسم شرطة ثالث العاشر من رمضان. ولم يسلم المواطن صلاح محمد عبدالعال من المصير ذاته، حيث لحق بهما بقرار حبس مماثل، في تأكيد على أن "القانون" في مصر بات سيفاً مسلطاً على رقاب الأبرياء لا أداة لحمايتهم.
"سجن الموت": إضراب الأمعاء الخاوية في مواجهة "المنفى"
وبعيداً عن صخب الاعتقالات في المدن، تدور معركة صامتة ولكنها الأشد قسوة في سجن الوادي الجديد، المعروف حقوقياً بـ"سجن الموت" أو "المنفى". فمنذ منتصف نوفمبر 2025، دخل عشرات المعتقلين السياسيين في إضراب مفتوح عن الطعام، احتجاجاً على ظروف احتجاز لا تليق بالبشر، بعد نقلهم القسري من سجن المنيا.
إن سياسة "التغريب" التي يمارسها قطاع السجون بنقل المعتقلين إلى مناطق نائية تبعد أكثر من 700 كيلومتر عن ذويهم، تمثل شكلاً من أشكال العقاب الجماعي المزدوج؛ فهي تنكيل بالمعتقل داخل زنزانته، وتعذيب لأسرته التي تضطر لقطع مسافات تتجاوز 1500 كيلومتر ذهاباً وإياباً، متكبدة تكاليف باهظة ومخاطر طرق أسفرت بالفعل عن حوادث وفاة للأهالي. وكما أكدت الشبكة المصرية لحقوق الإنسان، فإن هذه الممارسات تشكل انتهاكاً صارخاً للائحة السجون ولأبسط قواعد الإنسانية، في ظل تجاهل متعمد من إدارة السجن لمطالب المضربين المشروعة.
القضاء.. "ختم النسر" لتمديد المعاناة
وفي ساحات المحاكم التي غابت عنها العدالة، واصل القضاء دوره كترس في آلة القمع. ففي محكمة جنايات الزقازيق، تجلت الانتقائية والتعسف بأوضح صورها؛ فبينما أيدت المحكمة إخلاء سبيل ثلاثة معتقلين من مركز أبو حماد (محمد سعيد العزازي، عبد الرحمن ثروت البكري، عبد الله سعيد عبد الله)، سارعت في المقابل لقبول استئناف النيابة وإلغاء إخلاء السبيل لـ 14 آخرين، مقررة حبسهم 45 يوماً إضافياً.
قائمة من تم تجديد حبسهم ضمت 11 مواطناً من مركز أبو حماد، بينهم عبد الله القيشاوي، وسامي الأنور، وأحمد وحيد، إضافة إلى ثلاثة من مدينة القرين هم محمد عادل محسوب درويش، وأحمد حسن محمد، ومحمد عبد العزيز علي. هذه القرارات العبثية، التي تعيد تدوير المعتقلين في دوامة الحبس الاحتياطي اللانهائية، تؤكد أن القضاء لم يعد ملاذاً للمظلومين، بل أصبح أداة طيعة في يد السلطة للتنكيل بالخصوم السياسيين وتمديد مأساتهم ومأساة أسرهم.
وأخيرا فالمشهد في مصر الآن لا يحتاج إلى تحليل معقد؛ نظام مفلس سياسياً وشعبياً يستعيض عن الشرعية المفقودة بالعصا الأمنية الغليظة. فبينما يحاول تسويق أوهام "محاربة الفساد" عبر "تيك توك" والشاشات، يمارس الفساد الأعظم بإهدار كرامة الإنسان المصري في السجون والمعتقلات. إن صرخات المضربين في الوادي الجديد، وآهات المعتقلين في أقسام الشرطة، ستبقى وصمة عار تلاحق هذا النظام، وتؤكد أن القبضة الأمنية مهما اشتدت، لن تنجح في كسر إرادة شعب يرفض الذل والتزوير.

