في خطوة غير مسبوقة أثارت جدلاً واسعًا، أعلنت الهيئة الوطنية للانتخابات برئاسة القاضي حازم بدوي إلغاء نتائج الانتخابات الفردية في 19 دائرة انتخابية داخل سبع محافظات مصرية. القرار جاء بعد مراجعة دقيقة للفرز والاقتراع، مشيرًا إلى وجود مخالفات جوهرية تهدد نزاهة العملية الانتخابية. على الرغم من أن القرار يُظهر حرص الهيئة على تطبيق القانون وضمان مصداقية الانتخابات، إلا أنه أثار انتقادات واسعة، سواء من مرشحين مستقلين، أو منظمات مجتمع مدني، وحتى من بعض المراقبين السياسيين الذين اعتبروا أن الإجراء يعكس ضعف البنية الإدارية والتنظيمية للانتخابات.

 

دوافع القرار وأسبابه الرسمية

 

خلال مؤتمر صحفي، أوضح القاضي حازم بدوي أن الهيئة اكتشفت ثلاث مخالفات أساسية في الدوائر الملغاة:

 

- عدم الالتزام بضوابط غلق الصناديق وتأمينها في بعض اللجان الفرعية.

 

- وجود تباين كبير بين محاضر الفرز الأصلية والنتائج المجمعة إلكترونيًا.

 

- شكاوى موثقة من وكلاء المرشحين عن تدخل عناصر غير مخولة داخل مقار الاقتراع.

 

الهيئة أكدت أن هذا القرار جاء بناءً على تقارير ميدانية دقيقة ومراجعات داخلية لسجلات الناخبين وعدد بطاقات التصويت، بهدف حماية نزاهة العملية الانتخابية وسمعتها أمام الرأي العام. من الناحية القانونية، يُعتبر هذا الإجراء استثنائيًا، ويُطبق فقط عند ثبوت مخالفات تمس جوهر العدالة الانتخابية، وفق المادة 208 من الدستور التي تمنح الهيئة السلطة الكاملة على تنظيم وإدارة الانتخابات.

 

الأبعاد القانونية والسياسية للقرار

 

القانونيًا، يمثل القرار ممارسة صريحة لصلاحيات الهيئة الوطنية للانتخابات، ويعكس استقلالية الهيئة في مواجهة أي تجاوزات. إلا أن هذا الإجراء يطرح تساؤلات حول فعالية الرقابة الميدانية قبل وقوع الخروقات، حيث يضطر القرار إلى إعادة الانتخابات بعد إعلان النتائج، مما يخلق فوضى سياسية ويزيد من تكلفة العملية الانتخابية.

 

سياسيًا، يُظهر القرار حرص الهيئة على حماية مصداقية الانتخابات، لكنه في الوقت ذاته يعكس هشاشة البنية التنظيمية، ويُسائل فعالية الإجراءات الوقائية داخل اللجان الانتخابية. فالمواطن والمرشح يجدان نفسيهما أمام “مسرحية انتخابية” حيث تُلغى النتائج بعد فرز الأصوات، ما يزرع شعورًا بعدم الثقة ويضع علامات استفهام كبيرة حول إدارة العملية الانتخابية.

 

الانتقادات والآثار السلبية

 

على الرغم من مبررات الهيئة، فإن قرار الإلغاء يحمل في طياته مآخذ جدية:

 

الصدمة السياسية والإعلامية: إلغاء النتائج بعد إعلانها يخلق حالة من الفوضى ويُضعف مصداقية الانتخابات، إذ يرى المواطنون أن النتائج غير مستقرة وأن العملية الانتخابية قابلة للتغيير في أي لحظة، ما يقلل من ثقة الجمهور في النظام الانتخابي.

 

ضعف الرقابة الوقائية: بدلاً من منع المخالفات قبل وقوعها، تدخلت الهيئة بعد حدوثها، ما يبرز قصور البنية التنظيمية، ويحول العملية الانتخابية إلى تجربة درامية مليئة بالتقلبات، بدلاً من كونها منافسة ديمقراطية واضحة وقوية.

 

التأثير على المرشحين: المرشحون الذين سبق لهم إعلان فوزهم يواجهون الآن أزمة مصداقية ومخاطر سياسية واقتصادية، إذ يتحول حلم الفوز إلى تحدٍ جديد لإعادة العملية الانتخابية، وهو ما يخلق شعورًا بعدم الاستقرار وعدم العدالة بين المنافسين.

 

تأثير القرار على الثقة الشعبية: الجمهور يشعر بالإحباط تجاه الانتخابات، ويقلق من إمكانية تكرار هذه الأخطاء في المستقبل، ما يجعل أي محاولة لتعزيز المشاركة الشعبية أقل فاعلية، إذ أن المواطن يصبح مشاهدًا سلبيًا في مسرحية لا يملك فيها التأثير الكامل.

 

التوزيع الجغرافي للدوائر الملغاة

 

تغطي الدوائر الملغاة تسع عشرة دائرة في سبع محافظات، من بينها الجيزة، المنوفية، سوهاج، الشرقية، وأسيوط. وتظهر التفاصيل أن معظم المخالفات كانت أثناء الفرز أو تسجيل أصوات في لجان لم يكن للناخبين الحق فيها بالتصويت. هذا التوزيع الجغرافي يُبرز أن الخروقات ليست محصورة في منطقة أو تيار سياسي معين، وإنما تشمل نطاقًا واسعًا من الدوائر، مما يزيد من أهمية مراجعة الإجراءات الانتخابية بشكل جذري.

 

الانعكاسات السياسية والاجتماعية

 

سياسيًا، يمكن أن يُنظر إلى القرار على أنه محاولة لإصلاح العملية الانتخابية وتعزيز مصداقيتها، لكنه في الوقت ذاته يعكس هشاشة التنظيم الداخلي للهيئة، ويفتح الباب أمام جدل واسع حول علاقة الهيئة بالسلطة التنفيذية وقدرتها على إدارة الانتخابات بمستوى عالٍ من الشفافية.

 

اجتماعيًا، القرار يضع المواطن في موقف معقد: من جهة يشهد اهتمام الدولة بمكافحة الخروقات، ومن جهة أخرى يشعر بالارتباك من التغير المفاجئ في النتائج، ما يؤثر على مشاركته المستقبلية. هذا يعكس مأزقًا حقيقيًا بين حماية النزاهة وخلق بيئة انتخابية مستقرة وواثقة.

 

دور المجتمع المدني والمراقبين

 

رحبت بعض منظمات المجتمع المدني بمبدأ المساءلة، لكنها أكدت ضرورة نشر تفاصيل المخالفات في كل دائرة، لضمان الشفافية ومنع الشائعات. أما المراقبون الدوليون فيرون أن القرار يعكس وعيًا مؤسسيًا بضرورة حماية العملية الانتخابية، لكنه يسلط الضوء أيضًا على الحاجة إلى تحسين البنية التنظيمية والتدريب المكثف للكوادر الانتخابية لتفادي تكرار هذه الأخطاء.

 

الخلاصة والنقد العام

 

بينما يعكس قرار الهيئة الوطنية للانتخابات حرصًا على حماية النزاهة والمصداقية، فإنه يحمل في الوقت ذاته رسالة سلبية حول كفاءة إدارة العملية الانتخابية. الإلغاء بعد إعلان النتائج يحوّل العملية إلى مسرحية درامية، حيث الجمهور والمشاركون في الانتخابات يصبحون متفرجين على أحداث لا يستطيعون التأثير فيها، والمرشحون يتحولون إلى “أبطال ضحايا” في لعبة بيروقراطية معقدة.

 

واخيرا فان ما يمكن القول إن القرار يمثل اختبارًا حقيقيًا للهيئة الوطنية للانتخابات، ليس فقط في قدرتها على إصلاح الأخطاء، بل أيضًا في قدرتها على استعادة الثقة الشعبية في العملية الانتخابية. فإذا تم التعامل مع إعادة الانتخابات بشفافية تامة ونُشرت تفاصيل المخالفات، سيكون هذا خطوة مهمة نحو تعزيز الديمقراطية. أما إذا بقي الغموض يحيط بالإجراءات التصحيحية، فستظل الشكوك قائمة، وسيبقى المواطن هو الخاسر الأكبر في معادلة الثقة بالمؤسسات الانتخابية.