تكشف أزمة السكر الأخيرة في الأسواق المصرية، بما تحمله من ارتفاعات غير مبررة وتباين لافت بين مناطق البيع، عن أزمة أعمق من مجرد سلعة ارتفع سعرها.
فرغم حديث الحكومة المتكرر عن السيطرة والتوازن وتوافر المخزون الاستراتيجي، فإن الواقع اليومي للأسواق يعكس صورة مغايرة تماماً، تشير إلى فجوات واضحة في إدارة ملف السلع الأساسية وإلى حالة من ضعف الرقابة الفعلية.
الأمر لم يعد مجرد “ارتفاع موسمي” أو “تحرك طبيعي للأسعار”، بل أصبح نموذجاً صريحاً على قصور السياسات الحكومية، بما يفتح الباب لتصاعد التوتر الاجتماعي، خاصة مع اقتراب رمضان، حيث يمثل السكر أحد الأعمدة الأساسية في موائد المصريين.
شهدت الأسواق خلال الأسابيع الماضية تبايناً حاداً في الأسعار، حيث يتراوح سعر الكيلو بين 30 و45 جنيهاً بحسب المنطقة والعلامة التجارية وطبيعة منفذ البيع.
ورغم أن المصانع خفّضت أسعار التوريد بنحو 2000 جنيه للطن، فإن هذا الانخفاض لم يصل إلى المستهلك، وهو ما يعكس غياب آلية رقابية قوية تربط بين تغيرات الأسعار على مستوى الإنتاج وتطبيقها فعلياً في الأسواق.
ويشير عدد من الموزعين إلى أن الموردين الرئيسيين لم يلتزموا بخفض أسعار التوريد، الأمر الذي أبقى الأسعار مرتفعة لدى تجار التجزئة.
ورغم وفرة المعروض في السوق حسب تصريحات مسؤولي الحكومة، إلا أن الأسعار ظلت عند مستويات غير منطقية، وهو ما أثار تساؤلات واسعة حول قدرة الأجهزة الحكومية على ضبط مسار التسعير الحقيقي.
الحكومة من جانبها أصدرت قراراً بحظر استيراد السكر المكرر لمدة ثلاثة أشهر، بدعوى دعم الإنتاج المحلي.
ورغم أن القرار يبدو منطقياً على الورق، فإن نتائجه الميدانية ما تزال غير واضحة، بل قد يسهم في تضييق منافذ المنافسة، وترك الساحة بالكامل في يد كبار الموردين والمصانع، وهو ما قد يعزز من قدرة بعض الأطراف على التحكم في الأسعار دون خوف من رقابة أو محاسبة.
وتتحدث الحكومة عن أن الإنتاج المحلي يتراوح بين 2.6 و2.9 مليون طن، وهو رقم يقترب من حجم الاستهلاك السنوي البالغ 3.1 ملايين طن.
لكن هذه الأرقام الرسمية لا تفسر سبب اضطراب الأسعار، ولا تبرر الفجوة الكبيرة بين بيانات الحكومة والواقع الفعلي الذي يعيشه المواطن.
وإذا كان الإنتاج المحلي وفيراً كما يُعلن، فلماذا إذاً تتذبذب الأسعار بكل هذا العنف؟ وكيف تقف الحكومة عاجزة أمام موجة ارتفاع رغم امتلاكها مخزوناً يكفي 13 شهراً وفق ما أعلنته وزارة التموين؟
الأزمة تكشف عن نقطة أعمق: هناك خلل في إدارة السوق، وليس في حجم الإنتاج فقط. فغياب الشفافية وضعف الرقابة يسمحان لكبار اللاعبين في السوق بالتحكم في السعر، بينما يُترك المواطن في مواجهة الارتفاعات دون حماية تُذكر.
ومع أن كبار الموردين خفّضوا أسعار الطن بداية الأسبوع الجاري بنحو ألفين إلى ثلاثة آلاف جنيه، فإن هذا الانخفاض جاء متأخراً جداً، ودون أثر حقيقي على أسعار التجزئة.
ويرى خبراء أن السبب الرئيسي هو حالة “السيولة الرقابية” التي تسمح لكل تاجر بأن يسعر وفق رؤيته ومكاسبه الخاصة، دون ارتباط بالسعر الحقيقي للمصانع أو حتى بالسعر العالمي، وهو ما يُشعل حالة من عدم الثقة بين المواطنين والحكومة.
من ناحية أخرى، تتزايد المخاوف من تأثير سعر الصرف على الأسعار خلال المرحلة المقبلة، خاصة في ظل التوقعات التي تشير إلى احتمالية تعرض الجنيه لضغوط جديدة.
ويعتمد السوق المحلي بنسبة كبيرة على استيراد السكر الخام ومستلزمات التصنيع من الخارج، وهو ما يعني أن أي تراجع في قيمة الجنيه سيترجم فوراً إلى ارتفاعات جديدة، قد تفاقم حالة الاحتقان الحالية، وتزيد من الأعباء التي يواجهها ملايين المصريين.
ورغم هذه المؤشرات التحذيرية، تواصل الحكومة طمأنة المواطنين بأن الأسعار “تحت السيطرة” وأن “المخزون آمن”.
إلا أن هذه التصريحات لم تعد تقنع الشارع الذي يواجه واقعاً مختلفاً تماماً، ولا يرى انعكاساً لتصريحات المسؤولين على الأسعار الحقيقية.
هذا الانفصال بين الخطاب الرسمي والواقع المعيشي يعمّق فجوة الثقة، ويثير مخاوف من أن استمرار التناقض قد يؤدي إلى زيادة الاضطرابات الاجتماعية، خاصة في ظل الضغوط الاقتصادية المتراكمة وارتفاع أسعار أغلب السلع الأساسية.
اللافت أن أسعار الزيوت، وهي سلعة شديدة الحساسية للمستهلك أيضاً، حافظت على استقرار نسبي رغم بقائها عند مستويات مرتفعة.
هذا الاستقرار الهش يؤكد أن السوق يعيش حالة توازن مؤقت، قد ينهار في أي لحظة مع أي تقلب في سعر الصرف أو اضطراب في الإمدادات، وهو ما يزيد من القلق الشعبي من احتمالات موجة غلاء جديدة.
ما تخشاه الأوساط الاقتصادية اليوم ليس فقط ارتفاع الأسعار، بل اتساع رقعة الغضب الشعبي في ظل الإحساس العام بأن الحكومة لا تملك حلولاً واضحة أو أدوات رقابية فعالة، وأن تصريحاتها باتت أقرب إلى التهدئة المؤقتة منها إلى المعالجة الحقيقية.
هذا القلق يتضاعف مع اقتراب شهر رمضان، حيث يقف المواطنون كل عام أمام موجة جديدة من الزيادات، وسط عجز حكومي عن التدخل المبكر، وهو ما يضغط بقوة على الفئات الفقيرة والمتوسطة، ويعمّق الشعور بعدم الأمان الاقتصادي.
وأخيرا فإن أزمة السكر ليست مجرد أزمة سلعة، بل أزمة ثقة.
ثقة بين الحكومة والمواطن، وثقة بين البيانات الرسمية والواقع، وثقة في قدرة الدولة على إدارة الأسواق بشكل يحمي المواطنين من تلاعب كبار التجار وتقلبات الاقتصاد العالمي.
وإذا لم تتحرك الحكومة بخطوات فعّالة وشفافة—تبدأ بفرض رقابة صارمة على الأسعار، وتمتد إلى كشف الحقائق للمواطنين دون تزييف أو تهوين—فإن الأسواق قد تشهد موجات جديدة من الغلاء يصعب السيطرة عليها، وقد يتسع التوتر الاجتماعي بصورة غير مسبوقة.

