في وقت تتحدث فيه الحكومة عن دعم الإنتاج المحلي وتشجيع الاكتفاء الذاتي من الغذاء، يصرخ اتحاد منتجي الدواجن محذرًا من كارثة تلوح في الأفق بعد أن تراجعت أسعار الدواجن إلى 58 جنيهًا للكيلوجرام فقط، رغم أن تكلفة الإنتاج الحقيقية تجاوزت 70 جنيهًا، بحسب تأكيدات المربين. وبينما تتكدس المزارع بالدواجن التي لا تجد من يشتريها، تقف الحكومة موقف المتفرج، مكتفية بالتصريحات عن “استقرار الأسعار” في الأسواق، دون أي تدخل فعلي لإنقاذ صناعة تضم مئات الآلاف من المربين والعاملين.
خسائر متراكمة تهدد بإغلاق المزارع
يشير مربو الدواجن إلى أن الوضع الحالي أصبح لا يُحتمل بعد أن وصلت الأسعار إلى ما دون التكلفة، لتتحول دورة الإنتاج من مشروعٍ مربح إلى عبءٍ ثقيلٍ يدفع المزارع نحو الإفلاس.
يقول الحاج عبد الرحمن السيد، أحد كبار المربين في محافظة البحيرة: “نبيع الكيلو بـ58 جنيهًا، بينما تكلفة الإنتاج الفعلية لا تقل عن 70 جنيهًا بعد ارتفاع أسعار الأعلاف والكهرباء والعمالة. هذا يعني أننا نخسر أكثر من 12 جنيهًا في الكيلو الواحد.”
ويضيف أن الكثير من المربين اضطروا لذبح القطعان قبل بلوغها الوزن المثالي لتقليل الخسائر، فيما أغلق آخرون مزارعهم تمامًا، بعدما عجزوا عن سداد الديون وفواتير الكهرباء والمياه.
الحكومة تكتفي بالمشاهدة رغم الوعود المتكررة
رغم تحذيرات الاتحاد المتكررة وطلبات التدخل العاجل، لم تُقدِم الحكومة حتى الآن على أي خطوة عملية لشراء الدواجن من المربين أو تخزينها في المجمدات التابعة لوزارة التموين كما كان يحدث في الأزمات السابقة.
يقول الدكتور ثروت الزيني، نائب رئيس اتحاد منتجي الدواجن: “رفعنا مذكرة عاجلة إلى مجلس الوزراء ووزارة التموين نطالب فيها بشراء الدواجن المحلية بأسعار عادلة لحماية الصناعة الوطنية، لكن لم نتلق أي رد فعلي. الدولة تتحدث عن دعم الإنتاج، لكنها تترك المربي يغرق في الخسائر.”
ويرى الزيني أن تجاهل الحكومة للأزمة يهدد الأمن الغذائي المصري، لأن انهيار المزارع المحلية سيجعل السوق معتمدًا على الاستيراد، بما يعني ارتفاع الأسعار مجددًا لاحقًا.
ارتفاع الأعلاف والنقل والكهرباء يضاعف الأزمة
تأتي هذه الأزمة على خلفية ارتفاع أسعار الأعلاف بنسبة تجاوزت 40% منذ مطلع العام، بالإضافة إلى زيادة تكلفة النقل والوقود. ويشير مربو الدواجن إلى أن سعر طن العلف تجاوز 38 ألف جنيه، بعدما كان لا يتعدى 22 ألفًا قبل عامين فقط.
يقول محمد نجيب، صاحب مزرعة دواجن في الفيوم: “الأعلاف تُستورد بالدولار، والدولة لم توفر العملة الصعبة للمستوردين إلا بشق الأنفس، ما جعل الأسعار ترتفع بشكل جنوني. نحن نتحمل تكلفة الدولار، ثم نُجبر على البيع بالجنيه بأسعار لا تغطي حتى المصروفات.”
ويضيف أن استمرار هذا الوضع سيجعل الاستثمار في قطاع الدواجن “انتحارًا اقتصاديًا”، خاصة بعد هروب عدد كبير من صغار المربين من السوق.
مطالب عاجلة لم تجد آذاناً صاغية
يطالب اتحاد منتجي الدواجن الحكومة بتنفيذ ثلاث خطوات عاجلة لإنقاذ القطاع:
الشراء المحلي عبر وزارة التموين وهيئة السلع التموينية لتخزين الفائض وبيعه لاحقًا في منافذ “أهلاً رمضان” أو المجمعات الاستهلاكية.
تقديم دعم مباشر للأعلاف أو توفيرها بسعر مدعوم من خلال البنك الزراعي المصري.
إعفاء المزارع الصغيرة من رسوم الكهرباء والمياه مؤقتًا لتخفيف العبء المالي عنها.
لكن هذه المقترحات – التي يصفها المربون بأنها “آخر طوق نجاة” – لم تجد استجابة من الحكومة، التي تكتفي بالحديث عن “آليات السوق” وضرورة عدم التدخل في الأسعار، وكأنها تتعامل مع سلعة كمالية لا تمس الأمن الغذائي للمواطنين.
خبراء اقتصاد يحمّلون الحكومة مسؤولية الانهيار
يرى الدكتور مصطفى بدري، الخبير الاقتصادي، أن ما يحدث في قطاع الدواجن هو نتيجة مباشرة لغياب الرؤية الحكومية في إدارة ملف الأمن الغذائي.
“لا يمكن أن نتحدث عن تشجيع الإنتاج المحلي، ثم نترك المنتج يواجه الخسائر وحده. الحكومة كان يجب أن تتدخل مبكرًا بشراء الفائض أو على الأقل بتقديم دعم جزئي للمربين، لأن انهيار هذا القطاع سيكلف الدولة أضعاف ما ستنفقه الآن.”
وأضاف أن ما يجري يعكس غياب التنسيق بين وزارات التموين والزراعة والمالية، وأن ترك السوق “يتوازن” وحده في ظل ارتفاع الدولار والعجز في الأعلاف يعني ببساطة تدمير صناعة وطنية بُنيت على مدار نصف قرن.
المواطن الخاسر الأكبر في النهاية
ورغم أن تراجع الأسعار في الظاهر قد يبدو خبراً ساراً للمستهلك، فإن الواقع يؤكد أن انهيار قطاع الدواجن سيؤدي في النهاية إلى نتائج عكسية. فحين يخرج المربون من السوق، ستعود الأسعار إلى الارتفاع مع نقص المعروض، وهو ما سيضر بالمواطن محدود الدخل.
يقول أحمد عاشور، باحث في الاقتصاد الزراعي: “الدولة إن لم تتحرك اليوم لإنقاذ المربين، ستجد نفسها بعد شهور مضطرة لاستيراد الدواجن بأسعار مضاعفة. هذا ليس تراجعًا مؤقتًا في السوق، بل بداية انهيار منظومة غذائية كاملة.”
وختاما تبدو أزمة الدواجن اليوم مرآة لأزمة الإدارة الاقتصادية في مصر، حيث ترفع الحكومة شعار “دعم المنتج المحلي” بينما تترك المربين يواجهون خسائرهم دون دعم أو حماية. ومع استمرار تراجع الأسعار إلى ما دون التكلفة، يقترب آلاف المربين من الخروج من السوق، في وقتٍ تحتاج فيه البلاد إلى كل كيلوغرامٍ من الإنتاج الوطني. إن صمت الحكومة اليوم ليس حيادًا، بل تواطؤ ضد صناعةٍ وطنيةٍ كان يمكن أن تكون ركيزةً حقيقيةً للأمن الغذائي المصري.

