في مقابلة أثارت جدلاً واسعًا بين الأوساط الثقافية والاقتصادية، تحدث عالم الآثار المصري الدكتور زاهي حواس عن المتحف المصري الكبير، كاشفًا خفايا المشروع وتفاصيل تكلفته الضخمة والتحديات التي واجهت إنشاؤه، في ظل أوضاع اقتصادية متدهورة تعصف بمصر.
وبحسب خبراء آثار فإن المقابلة لم تكن مجرد حديث أكاديمي، بل صرخة نقدية لسياسات الإنفاق الحكومي، محذرًا من أن هذا المشروع الذي كان يفترض أن يكون مفخرة وطنية، تحول إلى رمز للتبذير والبيروقراطية والعبء المالي على الدولة والمواطن معًا.
البداية: حلم ثقافي تحول إلى مشروع منهك
في مستهل المقابلة، استعرض زاهي حواس فكرة المتحف منذ وضع حجر الأساس عام 2002، موضحًا أن المشروع بدأ برؤية حضارية نبيلة تهدف إلى تجميع التراث المصري العظيم في مكان واحد يليق بعظمة التاريخ المصري.
لكنه أشار بوضوح إلى أن المشروع انحرف تدريجيًا عن مساره الأصلي، متحولًا من مبادرة ثقافية إلى مشروع ضخم تتداخل فيه المصالح الإدارية والاقتصادية والسياسية، بتكلفة بلغت مئات الملايين من الدولارات، وسط تعقيدات بيروقراطية وتأجيلات متكررة استمرت لسنوات طويلة.
وفي هذا الاتجاه يراء خبراء أن حواس أنه من خلال تصريح حواس فإن الرمزية الثقافية لا يمكن أن تبرر هذا الإنفاق المفرط في وقت يعيش فيه المواطن المصري على حافة الأزمة الاقتصادية، مشيرًا إلى أن المشروع لم يعد يمثل إنجازًا بقدر ما أصبح عبئًا يُثقل كاهل الدولة.
إدارات متشابكة وبيروقراطية تُغرق المشروع
تحدث حواس مطولًا عن البنية الإدارية للمتحف، كاشفًا عن وجود 15 إدارة عامة و13 إدارة فرعية، واصفًا هذا التنظيم بأنه “عبء إداري زائد لا يخدم الفاعلية، بل يستهلك الوقت والمال ويكبّد المشروع تكاليف تشغيل غير مبررة.”
وأشار إلى أن هذا التضخم الإداري أنتج طبقة من الموظفين والمناصب بلا وظيفة حقيقية، بينما يظل العمل الفعلي منجزًا بجهود محدودة من الكفاءات الحقيقية.
ويرى خبراء أن الأخط رفي هذا التصريح هو إلغاء الرقابة المالية التقليدية على أموال المتحف، وهو ما اعتبروه تقويضًا مباشرًا لآليات حماية المال العام. وقالوا بوضوح إن تحويل المتحف إلى هيئة لا تخضع لمحاسبة صارمة يفتح الباب أمام الفساد وهدر المال العام، مضيفًا أن غياب الرقابة هو الطريق الأقصر نحو انهيار الثقة في أي مؤسسة، مهما كان بريقها.
تكلفة خرافية بلا عائد حقيقي
أما بخصوص التكاليف الاقتصادية للمتحف، فقد كان زاهي حواس واضحًا وصريحًا، مؤكدًا أن تكلفته كانت ضخمة إلى حد العبث، وأن الأموال التي أُنفقت عليه تفوق بكثير أي فائدة اقتصادية متوقعة.
قال بحسم: “حتى بعد 500 عام من تشغيل المتحف، لن يتمكن الاقتصاد المصري من استرداد قيمة هذه التكلفة.”
ويقول خبراء أن الاهتمام بالمتحف وعدم الاهتمام بالمواطن العادي الذي يعاني من فرضيات اقتصادية قاسية هو السبب في هشاشة الوضع العام.
وأوضحوا أن المشروع، رغم قيمته الثقافية والتاريخية، لا يمكن أن يكون بديلاً عن الحلول الاقتصادية العاجلة التي يحتاجها الوطن، وأن الانحياز إلى مبادرات إعلامية ضخمة كهذه لا يغطي على واقع الديون المتراكمة وغلاء المعيشة والأزمات اليومية للمواطنين.
بين الفخامة الزائفة والأولويات الغائبة
ويرى خبراء أن حواس وجه نقدًا ضمنيًا لكنه قاسيًا إلى سياسات الإدارة الحالية، متهمًا إياها بتجاوز الحدود في الإنفاق على الفخامة والمظاهر، مع إهمال واضح لاحتياجات التنمية الحقيقية. وأكد أن الحفاظ على الإرث الحضاري المصري لا يجب أن يأتي على حساب العقلانية الاقتصادية أو العدالة الاجتماعية، لأن “الثقافة بلا توازن مالي تتحول إلى عبء، والفخامة بلا فائدة تصبح استعراضًا أجوف.”
وأضافوا أن بناء المتاحف والقصور لا يُنقذ أمةً تعاني من ارتفاع الأسعار، وتدهور الخدمات، وتراجع الثقة في مؤسسات الدولة. وشدد على أن الحكمة في إدارة الموارد العامة هي جوهر النهضة الحقيقية، وليس استعراض الإنجازات أمام الكاميرات.
ثقافة في مواجهة الفقر
هذه المقابلة لم تكن مجرد حديث أكاديمي عن المتحف المصري الكبير، بل مرآة لواقع مأزوم تتقاطع فيه المحسوبيات مع سوء الإدارة، وتُهدر فيه المليارات باسم “الحضارة” في وقت يبحث فيه المواطن عن لقمة العيش.
إنها شهادة صريحة من مؤرخ شهد المشروع منذ بدايته، تكشف كيف تحولت الرؤية الثقافية إلى أداة سياسية ودعائية، في بلد يختنق بالأزمات الاقتصادية.
المتحف المصري الكبير، كما وصفه الخبراء، ليس إنجازًا يُحتفى به، بل درسًا قاسيًا في سوء ترتيب الأولويات الوطنية، حين تُبنى القصور وتُهمل الشعوب.

