بينما كانت الأضواء تُسلّط على احتفال قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي بالمتحف المصري الكبير، ووسائل الإعلام الرسمية تتغنّى بـ"إنجازات الدولة" و"هدية مصر للعالم"، كانت آلاف القرى تعيش في الظلام والفقر والحرمان، والمستشفيات تعاني من نقص الأدوية، والطرق تغرق في الحوادث، والمواطن البسيط يئن تحت وطأة الغلاء.
احتفال فخم صُمّم ليبهر الكاميرات، لكنه في جوهره يكشف عن مصرين مختلفتين: مصر الرسمية التي تحتفل بالرخاء المصطنع، ومصر الحقيقية التي تغرق في الصرف والمأساة اليومية.
المتحف الكبير.. زينة تخفي التشققات
في كلمته خلال الحفل، تحدّث السيسي عن "النهضة الحضارية التي تشهدها البلاد" و"المشروعات التي تضع مصر على خريطة العالم". لكن خلف هذه العبارات المكررة تختفي حقائق مرّة يعيشها المواطن كل يوم.
فبينما تُنفق المليارات على التجميل والافتتاحات، تُترك قرى كاملة مثل نجع حمدي في قنا والبرلس في كفر الشيخ تعاني من العطش وغرق المنازل في مياه الصرف الصحي، دون أن يصلها مشروع واحد من تلك “الإنجازات”.
الخبير الاقتصادي محمود عبد السلام يرى أن “المتحف الكبير رمز لدولة تستثمر في الصورة لا في الإنسان، فالمباني الفخمة لا تُخفي واقع الفقر ولا تُطعم الجائعين”.
القرى عطشى والمجاري تحاصر البيوت
في الوقت الذي كانت فيه الشاشات تبثّ مشاهد السيسي متحدثًا عن “تحضر المصريين”، كان أهالي قرى الصعيد والبحيرة والشرقية يملؤون الجِرار لجلب مياه الشرب من طلمبات ملوثة.
يقول محمد عبد العال من قنا: "إحنا بنشتري جالون المية بعشرة جنيه، والريّس بيكلمنا عن هدية مصر للعالم. طب فين هدية مصر لأولادها؟"
وفي قرية أخرى بمحافظة البحيرة، يقول أحد المواطنين: "البيوت غرقانة في المجاري، والأطفال بيعيشوا وسط الطين والحشرات. محدش فكر يزورنا ولا يسمع شكوانا."
مشاهد القرى المتهالكة وشوارعها الغارقة في الصرف تكشف الفجوة الصارخة بين الاحتفالات المترفة على الشاشات، والحياة القاسية التي يعيشها ملايين المصريين بعيدًا عن كاميرات التلفزيون الرسمي.
المستشفيات العامة.. موت ببطء
بينما تتفاخر الحكومة بالمشروعات القومية، لا يجد الفقراء سريرًا في مستشفى عام.
يقول أحمد فوزي، أحد سكان المنيا: "أمي عندها فشل كلوي، بنروح المستشفى الحكومي ما بنلاقيش لا علاج ولا دكاترة، يقولوا اشتروا الأدوية من بره. نجيب منين؟"
الطبيبة منى عبد الغفار تؤكد أن “الأزمة في المستشفيات الحكومية وصلت لمرحلة الخطر، فهناك عجز في الأطباء والممرضين، ونقص مزمن في المستلزمات”. وتضيف: “بدل ما يتم إنفاق المليارات على حفلات وواجهات زجاجية، كان الأجدر تطوير وحدات الغسيل الكلوي وأقسام الطوارئ”.
الفقر والغلاء.. إنجازات على الورق
الحكومة تتحدث عن انخفاض التضخم وتحسن الاقتصاد، لكن الواقع يقول إن الأسعار تشتعل كل يوم، والرواتب تتآكل.
تقول أم يوسف، عاملة نظافة من الدقهلية: "كيلو اللحمة بـ400 جنيه، والزيت والسكر نار، وإحنا مش لاقيين ناكل. ده إنجازهم؟"
وفي الوقت نفسه، يزداد الدين الخارجي والضرائب والرسوم التي تثقل كاهل المواطنين. بينما تُقدَّم للمواطنين مشاهد مصورة من المتحف الكبير، يُطلب منهم الصبر على “الظروف الصعبة” التي لا تنتهي.
الخبير الاقتصادي رمزي فهمي يقول إن “الدولة تحاول صناعة مجد إعلامي يغطي على إخفاقها في تلبية أبسط حقوق المواطن، فالمواطن لا يعيش بالتماثيل بل بالماء والخبز والعلاج.”
حوادث الطرق.. دماء لا تراها الكاميرات
قبل ساعات من الحفل، وقع حادث مروّع على طريق السويس أسفر عن مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة العشرات، لكن لم يُذكر في خطاب الرئيس أو نشرات الأخبار الرسمية.
يقول أحد أهالي الضحايا: "دم أولادنا لسه ما نشفش، وهما بيحتفلوا بالمتحف. إحنا مش في نفس البلد."
الناقد السياسي سعيد عبد العزيز يصف المشهد بقوله: “نظام السيسي يحتفل في قاعات مضاءة بالذهب، بينما تُراق دماء المصريين على الأسفلت دون كلمة عزاء.”
دولة تحتفل.. وشعب يتألم
تُقدّم السلطة المتحف الكبير كرمز للنهضة، لكن الواقع يقول إن النهضة الحقيقية تبدأ من إنقاذ القرى، وتطوير المستشفيات، وتوفير مياه نظيفة ومواصلات آمنة.
إن مصر التي ظهرت في الحفل ليست هي مصر الحقيقية، بل نسخة مصقولة للإعلام الرسمي. فخلف الأضواء الفاخرة تختبئ بلاد كاملة بلا صرف صحي، ومدارس بلا مقاعد، ومواطنون بلا أمل.
وفي النهاية فإن الاحتفال بالمتحف الكبير محاولة جديدة لتلميع صورة النظام، لكنه فشل في إخفاء وجع الناس. فالمصريون لا يبحثون عن متاحف بقدر ما يبحثون عن حياة كريمة.
سيذكر التاريخ أن في زمن السيسي كانت القصور تُشاد في العاصمة، بينما القرى تموت عطشًا، والمستشفيات تئن، والناس تُدفن في الصمت.
هذا هو الوجه الآخر لمصر التي يغيب عن احتفالاتها: مصر الفقراء، مصر المهمّشين، مصر التي ما زالت تنتظر من يراها لا من يتباهى بها.

