بينما كان المصريون يودّعون ضحايا حادث طريق السويس المروّع الذي أودى بحياة ثلاثة أشخاص وأصاب العشرات، خرج وزير النقل كامل الوزير بمقال مطوّل عبر موقع "صدى البلد" يشيد فيه بالمتحف المصري الكبير وبإنجازات قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي، متجاهلاً الحوادث المتكررة التي تحصد أرواح الأبرياء على الطرق يوماً بعد يوم.
المقال الذي بدا أقرب إلى بيان تمجيدي منه إلى رؤية نقدية لمسؤول عن أحد أخطر الملفات في مصر، أثار موجة غضب واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ رأى كثيرون أنه يعكس انفصال المسؤولين عن واقع الشارع المصري، واستهانتهم بدماء الضحايا مقابل تلميع صورة الحاكم وترديد عبارات المديح المكررة.
المتحف الكبير.. ستار لتلميع النظام
في مقاله، وصف كامل الوزير المتحف المصري الكبير بأنه "أعظم مشروع حضاري في تاريخ مصر الحديث"، وأنه "هدية مصر للعالم"، مستعرضاً كلمات السيسي في الاحتفال الأخير ومعتبراً إياه “رمزًا للنهضة الجديدة”. لكن الوزير لم يأتِ على ذكر معاناة المصريين اليومية مع المواصلات المتدهورة، ولا على شكاوى المواطنين من تهالك الطرق الإقليمية وتكرار الحوادث الناتجة عن سوء الصيانة وضعف الرقابة.
يرى محللون أن الوزير يحاول استثمار الزخم الإعلامي للمتحف ليظهر كأحد مهندسي “الجمهورية الجديدة”، متناسياً أن مهمته الأساسية هي حماية أرواح المصريين وتطوير البنية التحتية للنقل لا الترويج للمشروعات التي لا تمتّ بصلة لوزارته.
دماء على الأسفلت.. ووزير يتغافل
قبل ساعات فقط من نشر مقاله، كانت مواقع الأخبار وصفحات المواطنين تنقل مشاهد مروعة من حادث طريق القاهرة – السويس، حيث اصطدمت ثلاث سيارات نقل وخمس سيارات ملاكي وأتوبيسان، ما أسفر عن مصرع ثلاثة أشخاص وإصابة خمسة وأربعين آخرين.
الحادث لم يكن الأول ولن يكون الأخير، فبحسب بيانات غير رسمية تجاوز عدد ضحايا حوادث الطرق في مصر خلال العام الماضي 6 آلاف قتيل، وسط اتهامات مباشرة لوزارة النقل بالإهمال في الصيانة والمتابعة.
الخبير في هندسة الطرق الدكتور محمد عبد الرازق قال إن “السبب الحقيقي لاستمرار نزيف الطرق هو غياب التخطيط المتكامل والرقابة الجادة على شركات المقاولات المنفذة للمشروعات، إضافة إلى ضعف الإشراف الحكومي والاكتفاء بالتصريحات الإعلامية”. وأضاف أن “المسؤول لا يمكن أن يتحدث عن إنجازات بينما الناس تموت كل يوم على الطرق التي تقع تحت ولايته”.
نفاق رسمي على حساب الواقع
المقال الذي كتبه كامل الوزير تضمن إشادات مطوّلة بالسيسي، وعبارات أقرب إلى الشعر السياسي مثل “السيسي أعاد لمصر هيبتها بين الأمم”، و“العالم ينظر إلينا بإعجاب”. هذه اللغة، التي لا تليق بمسؤول تنفيذي، اعتبرها ناشطون “نفاقًا فجًا” و“انصرافًا متعمّدًا عن هموم المواطن الحقيقي”.
الكاتب الصحفي جمال فهمي علّق قائلاً: “الوزير يكتب كأننا نعيش في مدينة فاضلة لا تعرف الحوادث أو الفقر أو الغلاء. لكن المصريين يعرفون الحقيقة جيدًا حين يسيرون كل يوم على طرق غير آمنة تشقها الحفر وتغيب عنها الإضاءة والإشارات المنظمة.” وأضاف: “المشكلة ليست فقط في حادث طريق السويس، بل في ثقافة التمجيد التي تجعل الوزراء يتسابقون في مدح الرئيس بدلًا من محاسبة أنفسهم على التقصير.”
مسؤول يدهس الحقيقة كما تُدهس الأرواح
من المفارقات الصارخة أن كامل الوزير، الذي يفاخر دائمًا بإنجازات الطرق والكباري، لم يزر أيًا من المصابين في الحادث الأخير، ولم يصدر بيان عزاء رسمي حتى لحظة كتابة التقرير، وكأن دماء الضحايا لا تستحق الاعتراف.
يقول الخبير الاقتصادي مصطفى عبد السلام إن “المتحف الكبير مشروع حضاري عظيم، لكنه لا يُطعم الجائع ولا يؤمّن حياة السائق ولا يقلل من كلفة النقل أو معاناة الناس اليومية”. ويضيف: “حين يكتب الوزير عن المتحف ويتجاهل الكوارث الواقعية، فهو عمليًا يدهس الحقيقة كما تُدهس الأرواح على الأسفلت”.
من متحف الفخر إلى مقابر الصمت
يرى مراقبون أن خطاب التمجيد الذي يتبناه كامل الوزير يعكس نهجًا عامًا داخل الحكومة يقوم على إنكار الواقع وتقديم إنجازات انتقائية لامعة في الإعلام بينما يعيش المواطن تحت وطأة الفقر وسوء الخدمات. فالطرقات التي يتغنى بها المسؤولون تتحول إلى مقابر جماعية، والنقل العام الذي يفترض أن يكون شريان الحياة للمصريين أصبح عبئًا بسبب الإهمال والفساد.
ختاما ففي الوقت الذي يحتفل فيه الوزير بالمتحف الكبير ويكيل المديح للسيسي، تئن شوارع مصر تحت وطأة الدماء والدموع. لا يمكن لوطنٍ أن يُبنى على الدعاية، ولا لمتحفٍ أن يلمّع وجه سلطةٍ تتغافل عن أرواح أبنائها.
الوزير الذي يُفترض أن يكون صوت التنمية والسلامة، أصبح صوتًا للنفاق والتبرير، يتحدث عن "هدية مصر للعالم" بينما المصريون يبحثون عن أبسط هدية: طريق آمن لا يقتلهم كل يوم.

