في الوقت الذي تتزاحم فيه آلاف الوجوه أمام بوابات معرض كنوز الفراعنة في روما، ويُعلن القائمون عليه بيع خمسين ألف تذكرة في أيام معدودة، تقف القاهرة، مهد تلك الكنوز، في صمت مطبق.

لا بيانات رسمية، لا أرقام عن زوار المتاحف، ولا حتى منصة إلكترونية للحجز أو متابعة النشاط الثقافي. وبينما تعمل العاصمة الإيطالية في هدوءٍ ودقة على تحويل التاريخ المصري إلى نجاح اقتصادي وسياحي حقيقي، تواصل الحكومة المصرية بيع الوهم والاحتفاء بإنجازات السيسي قائد الانقلاب في مشاريع لم تكتمل، وفي متاحف بلا جمهور.

 

روما: عمل منظم وجهد حقيقي

في روما، لم يتحقق هذا الزخم صدفة. منذ الإعلان عن معرض “كنوز الفراعنة: أسرار مصر القديمة”، عملت الجهات الإيطالية المعنية على تنظيم دقيق ومستقل. تم إطلاق نظام حجز إلكتروني شفاف، وتم الإعلان بوضوح عن أسعار التذاكر، وجدول العروض، وساعات الزيارة الممتدة حتى منتصف الليل لاستيعاب الإقبال المتزايد.

وزارة الثقافة الإيطالية أعلنت بالأرقام أن 50 ألف تذكرة بيعت في أقل من أسبوعين، وأن الإيرادات تجاوزت التوقعات بثلاثة أضعاف.

الناقد الفني الإيطالي ماركو بيليني وصف المعرض بأنه “أحد أنجح الفعاليات الثقافية في أوروبا هذا العام”، مشيرًا إلى أن الجمهور لم يأت فقط بدافع الفضول، بل احترامًا لحضارة استطاعت أن تبقى حية عبر آلاف السنين.
هذا النجاح لم يُسوَّق بدعاية سياسية، بل بكفاءة مهنية وتنظيم شفاف، يعامل التاريخ كقيمة إنسانية لا كأداة للتطبيل.

 

القاهرة: دعاية بلا مضمون

في المقابل، يلفّ الغموض المشروع الثقافي الأكبر في مصر: المتحف المصري الكبير.

منذ سنوات والحكومة تُطلق وعودًا بافتتاح قريب، وتبث مقاطع دعائية تُظهر السيسي يتفقد الموقع باعتباره أحد “إنجازاته الكبرى”، لكن دون أن تعلن القاهرة حتى الآن كم تذكرة بيعت، أو كم زائر دخل المتحف، أو حتى إن كان يعمل بشكل فعلي للجمهور العام.

الخبير السياحي محمود البدوي يقول إن "ما يجري في القاهرة ليس مشروعًا ثقافيًا، بل عرض علاقات عامة للرئاسة، هدفه سياسي قبل أن يكون حضاريًا"، مضيفًا أن “الدولة لا تملك حتى الآن نظام تذاكر أو حجز إلكتروني واضح، وهو أمر لا يليق بدولة تملك نصف آثار العالم”.

ويضيف أن المتاحف المصرية “تعيش في عزلة رقمية”، فلا موقع رسمي محدث، ولا بيانات دورية، ولا أي مظهر من مظاهر الشفافية التي تميز مؤسسات الثقافة في العالم.
بيع التاريخ في الخارج… وبيعه إعلاميًا في الداخل

المفارقة أن روما تربح من كنوز مصر أكثر مما تربح مصر نفسها. القطع الأثرية التي خرجت من مصر قبل عقود أصبحت اليوم مصدر دخل هائل وعائد سياحي مستدام لإيطاليا، بينما في القاهرة، تُنفق المليارات على مشروعات صورية وتجميلية تحت شعار “الجمهورية الجديدة”.

الكاتب الثقافي عمرو عبدالحليم يرى أن “ما تفعله الحكومة المصرية هو تزييف صورة النجاح. نحن لا نبيع تذاكر ولا نخلق محتوى ثقافيًا حقيقيًا، لكننا ننتج حفلات افتتاح مكررة تُبثّ على التلفزيون وتُنسب إلى الرئيس”.
ويضيف: “بينما يعمل الإيطاليون في صمت، يعمل المصريون في صخب، والنتيجة واضحة على الأرض”.

 

الشفافية هي الفارق

الفارق بين روما والقاهرة ليس في عدد القطع الأثرية أو في قدم التاريخ، بل في منهج الإدارة.

روما أعلنت بدقة كم تذكرة بيعت، كم زائر دخل، وكم ساعة إضافية فُتحت. هذه التفاصيل تُكسب الثقة وتخلق حماسًا عامًا حقيقيًا.

أما في مصر، فكل ما يُعلن هو شعارات عن “الافتتاح الأعظم في التاريخ”، دون أي مؤشرات واقعية، حتى أن وزارة السياحة والآثار لا تصدر تقارير فصلية عن عدد زوار المتاحف الوطنية.

الخبيرة الاقتصادية د. هالة فهمي تقول: “السياحة الثقافية تُدار بالأرقام لا بالخطابات. إنفاق الملايين على الترويج لمتحف لا يزورُه أحد هو عبث اقتصادي وتضليل سياسي”.
في الخارج، تُباع خمسون ألف تذكرة لتاريخنا في أيام، وفي الداخل، تُباع خمسون كذبة عن “إنجاز المتحف الأعظم” بلا جمهور.

نجاح روما كشف ما تحاول القاهرة إخفاءه: أن العالم يصدق العمل الحقيقي لا الدعاية.
السائحون في إيطاليا حوّلوا إعجابهم بالحضارة المصرية إلى طوابير حقيقية، بينما المصريون يُجبرون على الاصطفاف في طوابير إعلامية لتمجيد السلطة.

التاريخ لا يحتاج إلى متحدث رسمي، بل إلى من يحترم قيمته، ويقدمه للناس لا للحاكم.