في الوقت الذي تتحدث فيه حكومة الانقلاب عن "محاور التنمية البشرية" و"تمكين الطفل المصري"، تكشف الأرقام الرسمية عن واقع أكثر قتامة. فبحسب المسح القومي لظاهرة عمل الأطفال لعام 2025، بلغ عدد الأطفال العاملين في البلاد نحو 2.76 مليون طفل من أصل 39.5 مليون طفل، بعد أن كان العدد في عام 2023 لا يتجاوز 1.8 مليون طفل. أي أن مصر شهدت خلال عامين فقط زيادة تقارب مليون طفل جديد انخرطوا في سوق العمل. هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات، بل هي مرآة واضحة لانهيار منظومة الحماية الاجتماعية وتصاعد حدة الفقر والبطالة بين الأسر.

الزيادة المروعة في عدد الأطفال العاملين تعبّر عن عجز حكومي مزمن في إدارة الملف الاقتصادي والاجتماعي. فبينما تواصل الحكومة إطلاق المشروعات العملاقة والإعلان عن "خطط الإصلاح"، تتدهور أوضاع الفئات الفقيرة بشكل غير مسبوق. ارتفاع الأسعار، وتراجع قيمة الجنيه، وتقلص خدمات الدعم المباشر، كلها عوامل دفعت الأسر إلى التضحية بحق أطفالها في التعليم مقابل لقمة العيش. لا يمكن تفسير هذه الطفرة إلا باعتبارها نتيجة مباشرة لـ سياسات التقشف غير العادلة التي رمت عبء الأزمة على الطبقات الأكثر هشاشة.

الأخطر من الأرقام نفسها هو غياب الإرادة السياسية لمعالجة الظاهرة جذرياً. فوزارة التضامن تتحدث عن مشاريع "تكافل وكرامة"، بينما ملايين الأسر لم تستفد فعلياً من هذه البرامج بسبب التعقيدات الإدارية وضعف التمويل. أما وزارة التعليم، فمستمرة في رفع المصروفات، وإغلاق المدارس الريفية الصغيرة، مما يجعل التعليم عبئاً لا قدرة للفقراء على تحمّله. في ظل هذه السياسات، يتحول الطفل إلى سلعة رخيصة، يعمل في الورش والمزارع والمقاهي، معرضاً لكل أشكال الاستغلال والعنف.

في المقابل، الخطاب الرسمي يواصل التغطية على الأزمة عبر الحديث عن "إنجازات التنمية المستدامة" و"تحقيق رؤية مصر 2030"، وكأن الدولة تعيش في واقع موازٍ لا علاقة له بالمجتمع الحقيقي. فكيف يمكن الحديث عن التنمية بينما يُدفع ملايين الأطفال إلى العمل القسري؟ أين هي لجان التفتيش؟ أين دور النيابة العامة في حماية حقوق القاصرين؟ وأين منظومة الرصد والمتابعة التي وعدت بها الحكومة قبل خمس سنوات ولم تُفعّل حتى الآن؟

لا يمكن فصل هذه الكارثة عن التحولات السياسية والاقتصادية خلال السنوات الأخيرة. فسياسة الخصخصة المتسارعة، وتخلي الدولة عن مسؤوليتها المباشرة في التعليم والصحة والرعاية، ساهمت في تفاقم الفقر وتراجع الطبقة الوسطى. ومع غياب الرقابة المجتمعية والإعلامية، تحوّل ملف الأطفال العاملين إلى منطقة مسكوت عنها، رغم وجود مصر ضمن الدول الموقعة على اتفاقيات منظمة العمل الدولية التي تحظر تشغيل الأطفال دون سن 15 عامًا. الواقع يقول إن هذه الاتفاقيات باتت حبراً على ورق.

إن الأرقام التي كشفها المسح القومي ليست مجرد مؤشر اقتصادي، بل إدانة أخلاقية لسياسات الدولة التي فشلت في حماية أصغر مواطنيها. فكل طفل يُنتزع من حقه في التعليم هو ضحية لنظام يرى التنمية من زاوية الطرق والعواصم الجديدة، لا من زاوية الإنسان. وكل ورشة أو مزرعة توظّف طفلاً هي شهادة واقعية على غياب القانون.

يجب أن تبدأ الحكومة فوراً في مراجعة سياساتها الاجتماعية والاقتصادية: إعادة تفعيل برامج الدعم النقدي للأسر، توسيع مظلة التعليم المجاني، وإطلاق حملات تفتيش حقيقية ضد تشغيل الأطفال. الأزمات لا تُحل بالمؤتمرات أو بالشعارات الإعلامية، بل بالاعتراف الصريح بالفشل والبدء في تصحيح المسار. إن الطفولة ليست مورداً اقتصادياً، بل هي مستقبل وطن بأكمله. وإذا استمر تجاهل هذه الحقيقة، فسنجد أنفسنا أمام جيل مكسور قبل أن يبلغ سن الرشد، وجمهورية بلا مستقبل حقيقي.