د. إبراهيم التركاوي
عندما  تكثر الفتن وتزداد المحن ، قد تكون المنايا مطلبا عزيزا غاليا - خشية  الفتنة أو الضرر في الدين – لكثير من الأخيار ، الذين لا يرون في الموت إلا  سعادة ، ولا في الحياة مع الظالمين إلا جرما .!
قال  أبو نعيم في "الحلية" (2/39) : قال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسين  أنه لما نزل القوم بالحسين – رضي الله عنه – وأيقن أنهم قاتلوه، قام في  أصحابه خطيبا ، فحمد الله وأثني عليه ، ثم قال : " قد نزل من الأمر ما  ترون ، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت ، وأدبر معروفها ، وانشمرت حتى لم  يبق منها إلا كصبابة الإناء ، إلا خسيس عيش كالمرعي الوبيل ، ألا ترون  الحق لا يعمل به ، والباطل لا يتناهي عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء الله ،  وإني لا أري الموت إلا سعادة ، ولا الحياة مع الظالمين إلا جرما" أ.هـ
•  حقا ، قد تطيب منادمة المنايا ، متى ازدحمت الحياة بالعبيد الأشرار ، ولم  يعد فيها مكان للأحرار الأخيار ، بعد ما أطبق عليهم الخناق ، وأحيط بهم من  كل مكان ، ولم يجدوا غير الذل سبيلا للأمان ، هنالك يهتفون - بكل عزة وإباء  وكبرياء - : الموت أحب إلينا من أن نُذل أو نُهان .!
•  وقد تطيب منادمة  المنايا عندما يكثر الخَبث ، وتعمُّ في الناس الفوضى والعبث ، وتُصاغ  الفتاوى بالضرب في المليان التي ما سمع بها من قبل إنسٌ ولا جانّ ، فيستخف  الإنسان بدم أخيه من بني الإنسان ، دون اكتراث ولا حساب ولا ندم ، وتضيق  بالأشراف الحياة بلا ذنب ولا عيب ولا سبب ، إلا أن وجودهم قد أقضّ مضاجع  المفسدين عن بُعد وعن كثب ، فلا عجب إن هتف بعضهم مع قول القائل :
يا موت زُر إنّ الحياة دميمة * ويا دهر جدّ إنّ ظهرك هازل !
•  وقد تطيب منادمة المنايا عندما يقلّ الحياء ، ويختلّ الميزان ، وتنقلب  الأوضاع – رأسا علي عقب - ، فتجعل الجبان شجاعا والشجاع جبانا ، والقزم  عملاقا والعملاق قزما ، والمهزوم منتصرا والمنتصر مهزوما ، والكذّاب صادقا  والصادق كذّابا ، والصديق عدوا والعدو صديقا ، والخائن أمينا والأمين خائنا  ، والذليل عزيزا والعزيز ذليلا ، والمقود قائدا والقائد مقودا ، والجلاد  ضحية والضحية جلادا ، والمتهم  بريئا والبريء متهما .. ، فعندئذ قد نري من ينشد:
إذا لم تخش عاقبة الليالي * ولم تستح فافعل ما تشاء
فو الله ما في العيش خير * ولا الدنيا إذا ذهب الحياء!
•  وقد لا تكون المنايا مطلبا بل قد تكون باعثا لحياة العزة والكرامة ، عندما  تغيب شمس الحرية ، ويحلّ بالناس ليل الظلم والعبودية ، ولم يجد الأحرار  غير الممارسات اليومية التي تصادر الحريات ، وتنتهك الحقوق والحرمات ، فلا  فرق بين عجوز وشاب ولا امرأة وطفل ، ولا قوي  وضعيف ، ولا صحيح ومريض ، فقد يُحاط بهم – جميعا – دون نظر لسن أو لغيره  من ظروف صحية ، أو اعتبارات إنسانية .!
فلا غرو إن ردّدوا  مع الشاعر :
إذا لم يكن من الموت بدٌ * فمن العجز أن تموت جبانا !
وإذ رأينا جُلّ ما سبق في دنيا الناس واقعاً ، يبقي السؤال قائماً : هل طابت منادمة المنايا ؟!
كلا  .. ، بل طابت مخاطبة الحياة الحرة الكريمة ، ما بقي الأحرار الأكابر – علي  الحق ظاهرين - يثنون الأصاغر عن مرادهم ، ويتمسكون بحريتهم ، ويذودون –  بسلميتهم – عن كرامتهم ، ويعتزون بقضيتهم ، و لا يبيعونها بدنياهم ولا  بدنيا غيرهم  ..!
وكيف لا ؟ وهم الأوتاد الذين يحفظون للأرض اتزانها ، وللقيم  ثباتها ..
إنهم لا يخطبون منادمة المنايا – مهما ضاقت بهم  الحياة واستحكمت – بل هم الذين يعيدون للأمة حياتها ، وللعقول وعيها ،  وللنفوس حياءها ، وللشعوب حريتها واستقلالها ..
إنهم كما قال إقبال :
همم الأحرار تحيي الرمما * نفخة الأبرار تحيي الأمما !

