وضاح خنفر*
العالم العربي بأسره عاش لحظات هي الأكثر ترقبا وتوترا منذ انطلاقة الربيع العربي قبل تسعة عشر شهرا، حبس الناس أنفاسه أمام شاشات التلفزة بانتظار قرار اللجنة العليا لانتخابات الرئاسة المصرية، وما أن تبين فوز مرشح الإخوان المسلمين وقوى الثورة محمد مرسي على خصمه أحمد شفيق رئيس وزراء حسني مبارك السابق، حتى تنفس الناس الصعداء، ليس في مصر التي شهدت احتفالات واسعه طوال الليل فحسب، بل وفي طول العالم العربي وعرضه، ليس لأن مصر هي الدولة المركزية في العالم العربي فحسب، بل لأن فوز مرسي الذي طال انتظاره، يرسل رسالة مفادها أن الربيع العربي لا يزال حيا، وأن محاولات العسكر وقوى النظام السابق و"الدولة العميقة" في مصر فشلت مرة أخرى أمام إصرار الثوار في ميدان التحرير.
ثوار سوريا الذين يعدّون قتلاهم كل يوم وسط خذلان دولي واسع احتفلوا بفوز مرسي، لأن فوز شفيق كان سيعطي نظام بشار الأسد دفعا جديدا لمزيد من البطش، وكذا احتفل ثوار تونس وليبيا واليمن لأن الانتقال السياسي الذي تعيشه هذه البلدان لا يزال غضا، وقوى النظم السابقة لا تزال حية تنتظر فسحة للإنقضاض على العملية الديمقراطية برمتها.
بقية الشعوب العربية التي لم تعش ذات التجربة الثورية في بلدانها، احتفلت هي الأخرى انتصارا لواقع جميل عاشته لحظة بلحظة منذ أن أحرق البوعزيزي نفسه في مدينة سيدي بوزيد التونسية، واقع استعاد فيه العرب كرامتهم، وحررهم من الشعور العميق بالدونية.
الأسابيع التي سبقت فوز مرسي كانت مشحونة باليأس، وحملت للربيع العربي نُذر شر، فالحملات الإعلامية المركّزة التي استهدفت قوى الثورة وخصوصا الإخوان المسلمين، مقترنة بتشظي صف الثوار وتنازعهم، وسلسلة الأخطاء التي وقعت فيها قوى الثورة، كلها رسمت مشهدا قاتما.
تغير المشهد عندما ظن المجلس العسكري أن الثورة قد انتهت، وأن الوقت مناسب للانقلاب على منجزاتها، فصدرت إثر ذلك خمسة قرارات متتالية : حل البرلمان الذي شارك ٢٨ مليون مصري في انتخابه، تبعه إعلان دستوري مكمل ينقل السلطات التشريعية للمجلس العسكري، أما قانون الضبط العسكري فقد سمح لأفراد الجيش باعتقال المدنيين، وفي أثناء جولة الاعادة لانتخاب الرئيس، ولما تبين للمجلس العسكري أن مرسي على وشك الفوز سارع العسكر لإصدار قرارين آخرين، الأول بتشكيل أمانة لرئاسة الجمهورية تحد من صلاحيات الرئيس المنتخب والثاني بتأسيس مجلس أعلى للدفاع ذو أغلبية من العسكريين.
إجراءات المجلس العسكري الأخيرة كانت مستفزة لجمهور المصريين ولكل المتابعين في العالم العربي، ولكنها وبشكل ما أفادت الإخوان وقوى الثورة عموما، وأخرجتها من تشرذم واسع وأخطاء عميقة ، وساعدت في الانتقال من التشرذم والصراع إلى صياغة تفاهمات بين الإخوان وقوى الثورة وعد فيها الإخوان بتقاسم السلطة مع الجميع، لا سيما بعدما أعلن مرسي أن منصب رئاسة الوزراء لن يتسلمه أحد من الإخوان، كما أن الرئاسة ستكون مؤسسية، وتضم ممثلين عن القوى المختلفة، وهو ما أثار ارتياحا واسعا، ودفع بالثوار إلى منطلقهم الأول: ميدان التحرير، لتستعيد مصر مشاهد الأيام الأولى للثورة، وليعلن الثوار الاعتصام حتى تتحقق مطالبهم بعودة البرلمان المنتخب وإلغاء القرارات العسكرية المتتالية.
الإعلان عن مرسي رئيسا يعني أن الثورة تمتلك الآن ثلاث مؤسسات: الرئاسة والبرلمان والميدان، اثنتان هما الرئاسة والبرلمان تتسمان بشرعية انتخابية ديمقراطية وأما الميدان فذو شرعية ثورية، ومصير الثلاثة مترابط، وهو ما دفع بالثوار للاستمرر في اعتصامهم حتى بعد إعلان مرسي رئيسا، فالمواجهة مع المجلس العسكري لم تنته، بل دخلت مرحلة جديدة، مرحلة يبدو فيها الشعب مسلحا لأول مرة بالإرادة والشرعية معا، فالربيع العربي اليوم أقوى من أي وقت مضى، ليس في مصر فحسب ولكن في العالم العربي كله.
الموقف الدولي حيال كل هذه التطورات كان باهتا، فقد التزمت الحكومات الغربية عموما الصمت حيال محاولات المجلس العسكري الانقلاب على العملية الديمقراطية ما عدا إشارات خجولة من الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، موقف أكد للشارع شكوكا عميقة في أن الحكومات الغربية لا تزال تمارس ازدواجية في خطابها تجاه التحول الديمقراطي في العالم العربي، مستذكرين وقوف هذه العواصم عقودا خلف ألأنظمة التسلطية التي ثاروا عليها، بل لاحظ العرب كيف التزمت الحكومات الغربية الصمت حيال فوز مرسي عدة ساعات قبل أن تبادر باريس ثم واشنطن إلى تهنئة أول رئيس منتخب ديمقراطيا في التاريخ المصري، ولعل إصرار الشعب المصري على تحقيق أهداف الثورة سيُقنع عواصم الغرب يوما أن مصالحها تكمن في حكومات شرعية منتخبة، لا في أوهام استقرار مزعوم تسوّقه قوى هرمة أطاحت بها الشعوب العربية إلى غير رجعة.
_____________
* مدير شبكة قنوات الجزيرة السابق

