حازم سعيد :
موضوع هذه المقالة هو ما فعله المجلس العسكرى الأسبوعين الماضيين من انتهاك واضح وصارخ للقانون ، وانقلاب خشن وغشيم – وليس بناعم – على الثورة تمثل فى مجموعة من القرارات الفجة بدءاً قانون الضبطية القضائية والذى يعد انتكاسة وردة لعصر مبارك ، أو بالأدق لعصر جمال عبد الناصر والجنرالات ، مروراً بحل مجلس الشعب فى تلكيكة – يعنى ما صدقوا الدستورية قالت كلام نفذوه فى بلد لم تعهد أبداً مثل هذه السرعة لا من الدستورية ولا من التنفيذين الذين يحكمونها - ، وكذلك الإعلان غير الدستورى المكمل الذى أكد رغبات العسكر فى التغول ، وانتهاءاً بتأخير نتائج الانتخابات الرئاسية التى بات من المعلوم للقاصى والداني فوز الدكتور مرسى بها .
كل هذا لنا معه مجموعة من الوقفات :
أولاً : دوافع العسكر :
دوافع العسكر – فى رأيي – فيما ارتكبوه من جناية لا تخرج عن اتجاهين أحلاهما مر – أو خطيئة - ، الأول : دوافع حب السلطة والبقاء فيها مع تأمين أنفسهم ضد المحاكمات وخلافه بالتواجد فى سدة الحكم وفى المشهد ، وهذا الدافع لا يحتاج لمناقشة ، حيث لا يمكن أن تناقش فرعون المؤسسة فى فشل سعيه ، بعد أن قمت بثورة لتزيح فرعون الفرد ، وكان على العسكر ان يتعظوا من مشهد سابقهم ومن طريقة خلعه ، ومن المهانة التى تعرض لها وهو فرد ، فما بالك وهم مؤسسة كيف سيكون أخذه وخلعه أليماً شيداً موجعاً !
الدافع الثاني : هو ما أوهمه به البعض من أن ذلك فى مصلحة البلد – هذا فى حالة أحسنا الظن بهؤلاء العسكر ، وأميل لألا أحسن - وبالطبع لا يمكن أن أحسن الظن بأولئك الذين أوهموه ، وهم بعض العلمانيين الأقحاح من أمثال يحيى الجمل ، والوحيد الذى أشم رأئحته فى هذا المشهد المؤذى هو يحي الجمل ، ولا زلت أذكر له موقفاً صنعه – وهو داعية الحرية – مع منتقبة طالبة له حين نهرها ، وكانت تجلس بالصفوف الأولى بمدرج جامعته وأمرها ألا تحضر له لأنه يكره هذا الزى وهذه الهيئة ، فى وقت كانت مثل هذه المنتقبة تتعرض لأقسى حالات القهر والاضطهاد ، وكان يزعم أنه من دعاة حرية الرأى والمعتقد .
أقول أن أمثاله أوعزوا للعسكرى أنه إذا جاء الإسلاميون لسدة الحكم فلسوف يسيطرون على كل شئ يكون معهم البرلمان ثم يشكلوا الحكومة ويكون منهم الرئيس ، فلابد من خطوات استباقية لضمان حيادية البلد وعدم تغول أحد فيها ، لذا لابد من السيطرة على تأسيسية الدستور ، وحل مجلس الشعب والحد من صلاحيات الرئيس القادم .
وصدقه العسكرى – هذا إن أحسنا بهم الظن – وبناءاً عليه قاموا بما قاموا به من مكر خبيث وكيد مفضوح .
وفات هؤلاء وهم يصنعون هذا الوهم ، أن الدستور لا يضعه الإسلاميون ولا الإخوان وحدهم ، وأن تسعة أعشار الدستور متفق عليه من كافة القوى ، وأن مساحة الحرية وطريقة تداول السلطة التى توضع بالدستور هى العاصم الوحيد من أي تغول لأي جهة كائنة من كانت .
ثانياً : خطأ منطق الوصاية :
ثم إن ما يصنعونه – لو أحسنا بهم الظن – هو تغول ، فلا يقبل التغول اليقينى القطعي أبداً لمواجهة التغول المظنون المفترض الموهوم ، لو أنك تخاف من تغول الإخوان أوالإسلاميين أو غيرهم ، فساعد على بناء الديمقراطية الحقة فى البلد يا أيها الجمل أنت والعسكري واحترموا المؤسسية فى التصرف والقرارات واحترموا الشورى والديمقراطية ، خاصة ونفوس الناس لم تعد مهيئة للذل أو الهوان بعد ثورتهم المجيدة .
إن منطق الوصاية الذى تعامل به العسكر حتى لو كانت دوافعه حسنة هو منطق فرعوني متعالى ، يتناسب مع أمثال الجمل وغيره ممن ساهم فى تفصيل هذه القرارات الفاشلة ، إحساس أنك أعلى من الناس فترسم لهم خط سيرهم وتقرر لهم مصيرهم .
لماذا مثلاً لو أنك تخاف من تغول الإخوان والسلفيين وتخشى من عدم احترام أحكام القضاء كما تدعى فى بيانك ، لماذا لم تحترم الشعب ، وبدلاً من أن تنصب نفسك وصياً عليه ، كان يمكنك أن تطرح عليه استفتاءاً ليقرر هل يحل البرلمان أم لا ، وكان يمكنك أن تطرح عليه استفتاءاً بمكملاتك غير الدستورية الفاشلة ، كما فعلت ذلك أيام التعديلات ، لماذا استبدلت فكرة احترام الشعب وأن يكون هو صاحب القرار إلى التغول وتنصيب نفسك ولياً عليه . أنا أعرف لماذا وأجيبك عليها إن شاء الله فى النقطة ثالثاً .
إنه تغول وعدم فهم لطبيعة الدور الذى رضيت القوى الوطنية للعسكرى أن يمارسه ، بل حتى لم يتفق عليه الجميع وظل الكثير معارضاً له ، وهو دور رجل الأمن المؤقت الذي يسلم البلد لأصحابها فى ظل تخاذل سابق للداخلية ، ولم يخرج الدور عن هذا ، فكيف لك أن تنتزع صلاحيات ليست لك مهما كانت دوافعك ، ومن أعطاك الحق لتخرج عن ذلك الإطار ؟!
إن نبل الغاية – إن فرض وجودها – لا تشفع أبداً للفرعونية ولا تبرر أبداً الانقلاب على الشرعية ، ولا تضعك فى مكانة تنصيب نفسك وصياً على شعب عريق قام بثورة لخلع فرعون فرد لتأتي أنت وتجعل من نفسك فرعون المؤسسة الذى يحكم ويشرع . هذا ما لن يكون ، ولو بدمائنا ، وقد تركنا بيوتنا وأعمالنا ولن نعود إلا ونحن مرفوعى الرأس كرماء أو جثث هامدة راضين بكرامة الدنيا والآخرة والاستشهاد فى سبيل غايتنا السلمية الشريفة ..
ثالثاً : رهان العسكر على الفرقة وطول ما فعلوه السنة الماضية :
أعلم السبب الرئيسى الذى جعل العسكرى يتجرأ وينقلب على احترام الشعب إلى وصى عليه – بخلاف اللعب فى ودانه من العلمانيين الأقحاح – وهو يتمثل فى رهان العسكرى على الجهد الذى بذل طوال السنة الماضية والذى تأجج بعد مجلس الشعب من محاولات الدس والفرقة بين عناصر واتجاهات الثورة .
لقد بذروا الشقاق والفتنة بين القوى الوطنية والاتجاهات الثورية جميعها ، وأظهروا الإخوان والإسلاميين فى خندق المتآمر معهم وعاقد الصفقة ، مع أنهم ظلوا يضربونهم فى ظهرهم من خلال وسائل الإعلام الخبيثة الممالئة لهم ، ومن خلال تضييق الخناق على البرلمان بحكومة لا تنفذ قوانينه ولا تحترمه ، ومن خلال جهاز ( أمني أو مخابراتي ) ينشر الشائعات والتسريبات فى كل أنحاء مصر بطريقة مكثفة حتى لا يكاد يخلو منها شارع ولا زقاق .
وأصبحت فرص الإسلاميين فى الرئاسة ضيقة ، وأصبحت فرص التوحد بين القوى الثورية منعدمة – هكذا ظنوا – وفق تقديرات خائبة .
هذا الجهد ، لو أنا نتعامل بمنطق البشر والأسباب المادية ما كان له أن يخيب أبداً ، فما الذى تغير فى المعادلة ليخيب الظن بهذه الصورة ؟
لقد توحدت قوى الثورة والوطنيون الشرفاء ، وعاد الميدان من جديد بنبضه ، وعادت روح الاستشهاديين السلميين الذين جاؤوا للميدان بنبض الشهادة وبنفس الروح السلمية الرائعة الهادرة التى كان عليها الميدان منذ انطلاق شرارة الثورة الأولى .
لقد أصبح الميدان والقوى الوطنية كلها على قلب رجل واحد توج ذلك بالحالة الرائعة بالميدان وما تبعها من مؤتمر الوحدة للقوى الوطنية وما انبثق عنه من قرارات عصر الجمعة 22/06/2012 ، ليسقط فى يد العسكرى ومن عاونه وأوعز إليه تلك القوانين الفاشلة ، ومن قوى فى نفسه الظن بالرهان الفاشل الذى راهن عليه .
ما الذى حدث ليخيب الرهان بهذه الصورة ؟ أجيبك فى النقطة التالية .
رابعاً : الله القوى القادر القاهر :
لقد غاب عن هؤلاء العسكر أن لهذا البلد رب يحميه ، يدبر أمره وهو فوق مكر الماكرين لأنه سبحانه هو القوى القادر القاهر الجبار العظيم مالك الملك .
وهنا أستحضر بعض آيات من القرآن الكريم ، ذلك الكتاب المعجز الذى لا تنتهى عجائبه ، أقرؤها عليكم بلا تعليق ولا حتى تفسير داعياً إياكم أن تتدبروها ، وتستمسكوا بها وتوقنوا بهذا الدين المجيد ، وهذا الكتاب المعجز ، أقرأ هذه الآيات وأعجب كيف لعجلة الزمان أن تدور لينطبق علينا ما انطبق على القرون الآولى فى تسلسل عجيب ، وفى إعجاز لهذا الكتاب الذى هو كلا م رب الكون سبحانه ، اسمع واقرأ وتدبر :
" ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون (50 ) فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين ( 51 ) فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون (52 ) وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون (53) " ( النمل من 50- 53 ) .
" كَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُون "( الأنعام 123 ) .
" وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ( 46 ) فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ " ( إبراهيم : 46 ، 47 ) .
" قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ " ( النحل 26 ) .
خامساً : العسكر وحدونا وأنتجوا الثورة من جديد :
بعد أن تقرأ هذه الآيات وتعجب من قدرة الله سبحانه الذى قلب الكيد والدس والتآمر ، لهذه الوحدة والتوافق الوطني العالى ، عد إلى أسباب الدنيا بعد التسليم لله القوى العزيز المقتدر ، وانظر لشرف هؤلاء الوطنيون من أمثال 6 أبريل ومنظمات الثورة الأخرى وكذلك الشخصيات الوطنية التى تمثل رموزاً للعمل الوطني ، وانظر كيف غلبوا صوت العقل والمنطق وحب الوطن وتساموا فوق خلافاتهم وكان نكران الذات والتآخى والاتفاق والعمل فى وضوح النهار وسطوع الشمس .
عكس أولئك المتآمرين الذين همسوا فى ظلمة الليل الدامس للعسكرى وتواطئوا معه فخاب سعيهم ودمر الله كيدهم ، وانقلب تدبيرهم تدميراً لهم ، وباتت مؤشرات الثورة ضدهم ، ونجاحها فى خلعهم .
فهل يستفيقوا قبل أن يجرفهم الطوفان كما جرف من قبلهم ؟ وهل يعودوا للعقل والمنطق قبل أن لا يملكوا قدرة العودة ؟ أتمني .
------------

